النظرة إلى الجسد عند البلخي
النظرة إلى الجسد عند البلخي
قبل أن نتطرَّق إلى كيف قسَّم البلخي الموضوعات التي تناولها حول البدن والنفس من الجدير أن نشير إلى أن أهم ما تميَّزت به نظرته شمولها ورؤيتها المتكاملة للإنسان على أنه وحدة واحدة يتأثر فيها البدن بما يعتري النفس والعكس صحيح، ولعلَّه الأول الذي اهتم بعلاقتهما معًا، وهو ما اقتنع به العلماء مؤخرًا ولا يزال البعض غير مهتم به وغير مفعِّل له في العيادات الطبية.
تأثرًا بالنظرة اليونانية للكون طبيعةً وإنسانًا وقتها، تأثَّرت نظرة البلخي وتقسيمه أيضًا، فالماء والنار والهواء والأرض العناصر الأربعة التي يزعمون أن كل شيء خُلق منها، زعم البلخي أيضًا أنها كلها موجودة في داخل الإنسان، وانطلق منها إلى بقية التقسيم، ولم تنتهِ الرباعية عند هذا الحد، بل منها نتجت الأخلاط الرباعية، وهي الدم والبلغم والمرة السوداء والمرة الصفراء، ثم من هذه الأخلاط خُلقت أجزاء البدن العشرة التي رُكِّبت منها الأعضاء، وهذه العشرة هي: الجلد واللحم والشحم والعروق والرباطات والعصب والعظام والمخ والأغشية والغضاريف، وأما الأعضاء فالرئيسة منها ثلاثة والبقية تندرج تحتها، وهي بالطبع: الدماغ والقلب والكبد (الحس والحياة والغذاء).
انطلاقًا من هذا التشريح بدأ البلخي يشرح كيف يمكن أن تؤثر البيئة والغذاء والهواء والرياضة والجنس والنظافة في ذلك التقسيم للبدن اعتلالًا وصحة، فالرياح الباردة والحارة تؤثر في الإنسان والحيوان قوةً وضعفًا وربما تغيرًا في لون البدن، وكذلك التعرُّض للشمس وارتباط مواعيد النشاط والحركة والعمل بها كونها أول اليوم بخلاف السهر وما يخلفه من نحول وضعف وتعب، كما تطرَّق أيضًا إلى أهمية نوع الغذاء وتأثيره في البدن قوةً وضعفًا، بل وتعرَّض أيضًا لتأثير ما يدخل عن طريق حاسة الشم إلى البدن في البدن نفسه فقسَّمها إلى ما يُشم من ريح طيب ويكون أثره في النفس سرورًا وبهجة، ومنه ما هو كريه الرائحة تنفر منه النفوس، بل وقد يُمرضه إذا طالت فترة تعرُّضه له.
ينظر البلخي إلى الجنس نظرة طبيعية بشرية فطرية من حيث حاجة الإنسان إليه كحاجته إلى الطعام والشراب، ويدعو إلى الاعتدال فيه كدعوته إلى ذلك في الطعام والشراب أيضًا، وتتوسَّع دعوته إلى التوسُّط لتشمل الرياضة، فالإكثار منها في نظره يسبِّب تعبًا وسخونة وانعدامها يسبب كسلًا وثقلًا، وهو ما لا نجهله كلنا طبعًا!
الفكرة من كتاب مصالح الأبدان والأنفس
إن جهلنا بتاريخنا الإسلامي وغلبة المادة والنظرية الغربية المفسِّرة لكل شيء من حولنا تقريبًا أورثنا ضعفًا وانقيادًا للغرب بمخرجاته صحيحة كانت أم فاسدة، وأسلمنا أنفسنا وأجسادنا (بالمعنى الحرفي) له ليجرِّب ويكتشف، ثم يتبيَّن خطأه ونقصه بعد مرور الأعوام وفوات الأوان!
هذا الكتاب يعد دليلًا قويًّا على سبق العالم الإسلامي في الطب النفسي منذ مئات السنين، وبخاصةٍ في العلاج المعرفي السلوكي الذي ينبهر الغرب اليوم بنتائجه، ولكنها عقدة النقص!
مؤلف كتاب مصالح الأبدان والأنفس
أبو زيد البلخي: وُلد في مدينة بلخ، والتي تُعد من أكبر مدن خراسان، وهي اليوم مدينة من مدن أفغانستان عام 235 للهجرة، وفي شبابه سافر إلى العراق طلبًا للعلم فتبحَّر في الفلسفة والفيزياء والتنجيم وأصول الدين والطب، وتتلمذ على يد علماء كبار من بينهم يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف العربي المعروف.
لم يكن عصر البلخي عصرًا هادئًا، بل كان مضطربًا من الناحية السياسية ومن الناحية الدينية أيضًا، فأما من الناحية السياسية فاتسم العصر بضعف الدولة العباسية وتكالُب الفتن عليها من كل حدب وصوب، وباشتعال الفتن في البلاد التابعة لها ومن بينها خراسان، واتسمت تلك الفترة أيضًا بظهور الفرق والحركات الباطنية كحركة الزنج والقرامطة مثلًا؛ خروجًا على الدولة العباسية وتأسيسًا لمُلك مستقل عنها، بل وظهرت الفرق والمذاهب الكلامية أيضًا، ويبدو أن البلخي نفسه قد تأثَّر بشيء منها ثم عاد إلى جادة الصواب، ويُقال بل كان على العقيدة الصحيحة، ولم تتكدَّر عقيدته بشيء من ذلك.
بعدما أنهى رحلته في العراق عاد إلى مدينته وعرض عليه حاكمها أحمد بن سهل المروزي الوزارة فرفض البلخي هذا العرض وقبِل أن يكون كاتبًا للحاكم.
ألَّف البلخي ما يقارب الستين كتابًا، ومن ذلك:
فضيلة علم الأخبار.
فضل مكة على سائر البقاع.
الشطرنج.