العتاب
هناك سؤال لا يكف الإنسان عن سؤاله لنفسه عندما يحدث له أذًى أو مكروهٌ ممن يصادق: هل العتاب أولى أم الصبر والتغاضي؟
اختلفت الأقوال في هذا الصدد بين معارضٍ للعتاب بين الأصدقاء لما يُفضي إليه من الضرر، وبين مؤيِّدٍ له لما يُرجى فيه من النفع.
ولذلك قيل في ترك العتاب:
أقلِل عتابك فالزمانُ قليلُ * والدهرُ يعدلُ مرةً ويميلُ.
وقيل: إذا كنت في كل الأمور معاتبًا * صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه.
وقال بعضهم: العتاب مذلَّة، وقل من بدأ به متظاهرًا إلا وثاب عنه خاسرًا، وربما أورث ما هو أضرُّ مما عتب عليه.
وقيل: لا تطفئنَّ جوًى بعتبٍ، إنه * كالريح، تغري النار بالإحراق.
وقيل أيضًا: خير القرينين من أغضى لصاحبه * ولو أراد انتصارًا منه لانتصرا.
والأقوال في ذلك أكثر من أن تحصى.
وفي الحثِّ على العتاب أيضًا أقوالٌ نورِد بعضها:
قال شاعر: تركُ العتابِ إذا استحقَّ أخٌ * منك العتابَ ذريعةَ الهجرِ.
وقال آخر: أعاتبُ ليلى، إنما الهجرُ أن ترى * صديقك يأتي ما أتى لا تعاتِبُهُ.
وقال بعضهم: الصبر على أخٍ تعتب عليه * خيرٌ من آخر تستأنف مودته.
وقيل: ما عاتب المرء الكريم كنفسه * والمرء يصلحه الجليس فيصلح.
فهل العتاب أولى أم الصبر والتغاضي؟
إن العتاب مثل كثيرٍ من التصرفات، لا يطلب ولا يترك لذاته، فقد يغلب طابع النفع عند العتاب في موقف، كما قد يغلب أيضًا طابع الضرر في موقفٍ آخر، ومن هذا الباب قيل إن الجمع بين العتاب في بعض المواقف وعدم العتاب في مواقف أخرى على حسب ما يقتضيه الحال أقرب إلى الصواب.
ولكن أغلب ما قيل حول العتاب في أن التقليل من العتاب أفضل، لأنه قلَّ ما تَسلم علاقة الصداقة من آفات العتاب، وتعود إلى ما كانت عليه قبله.
فإن في التغاضي والصبر على كثيرٍ من المواقف استمرار وثبات لعلاقة الصداقة.
والجمع بين هذه الأقوال أن يعامل العتاب كما يعامل الدواء، فالإنسان يأخذ الدواء عند الضرورة وليس في كل وقت، كذلك العتاب أيضًا لا يلجأ إليه الإنسان إلا إذا غلب على ظنه وجود النفع منه.
قال أعرابي: “كثرة العتاب إلحاف، وتركه استخفاف”.
الفكرة من كتاب الصداقة والصديق
يقال إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، أي إنه لا يستطيع أن يحيا بمفرده دون أُناس آخرين، ولكن علاقات البشر لا تتبَعُ نمطًا واحدًا، بل يحكمها الكثير من المتغيرات لأن طبيعة الإنسان نفسها على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتركيب الذي لا يخضع لتصنيف.
وأثناء رحلة الحياة يقابل الإنسان الكثير من الأشخاص، يربطه ببعضهم نوع علاقة ويعرض عن البعض الآخر، وعلاقاته ليست على وتيرةٍ واحدة، فمنها ما يقع تحت حيز التعارف، ومنها ما يصل إلى درجة الصداقة، ومنها ما يصل إلى حد العشق والحب .
ولمَّا كان للصداقة النصيب الأكبر من العلاقات في حياة الإنسان، أصبح لها مكانةٌ عظيمةٌ في النفوس.
فما مكانة الصداقة؟ وما صفات الصديق وخلاله وخصاله؟ وما الفرق بين الصداقة وغيرها من العلاقات؟ وهل يُمدح العتاب بين الأصدقاء أم يُذم؟
هذا ما سنتعرَّف عليه في ثنايا الرسالة التي بأيدينا.
فقد ألَّف أبو حيان هذه الرسالة عن الصداقة والصديق على نسق لم يسبق إليه أحدٌ قبله، أورد فيه قدرًا كبيرًا من أقوال الحكماء والشعراء حول موضوع الصداقة.
وكما يقول عن موضوع الرسالة هو موضوع لا يستقصي ما قيل فيه، ولو أردت الاستقصاء لمَا انتهيتُ من ذكر
الأقوال، ولكن أورد أهم ما قيل فيه حتى لا تبعث هذه الرسالة على الملل والضجر.
مؤلف كتاب الصداقة والصديق
أبو حيان التوحيدي: فيلسوف وفقيه وأديب، عاش في القرن الثالث الهجري، وكان من أكثر أهل عصره معرفةً في مختلف العلوم.
كانت حياته مليئة بسوء الحظ وإعراض الدنيا عنه، ولا عجب أنَّ رجلًا بمثل ما كان عليه أبو حيان من العلم مع عدم بذل الدنيا له إلا القليل أن يصيبه بعضُ السأم والضجر من الحياة، ويُروى عنه أنه أحرق جميع كتبه قبل موته، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا القليل.
له عدة مؤلفات أخرى وصلت إلينا مثل كتاب “البصائر والذخائر”، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة”.