ندرة الصديق
ندرة الصديق
“أعلم أنه لا وجود للصديق ولا من يتشبَّه بالصديق”، هكذا بدأ أبو حيان رسالته التي نحن بصدد الحديث عنها، حيث لا يخفى عليك كون ما ذكرنا من صفات الصديق عزيزٌ نادرٌ أن يجتمع في إنسان، لأنه قلَّ من يسعى ليرتقي نحو الكمال، وأقلُّ منه من يصِل إليه.
ولذلك قال روح بن زنباع لما سئل عن معنى الصديق: هو لفظٌ بلا معنى.
أي إنه لما عزَّ وجوده أصبح مجرد لفظٍ لا معنى له في الخارج فقد قلَّ من يتحقَّق به.
والأقوال مثلُ ذلك كثيرة نورِد بعضها:
قال أحد الشعراء:
يا ربُّ كلُّ الناس أبناء علةٍ * أما نعثُر الدنيا لنا بصديق؟
وقال إبراهيم بن أدهم: “أنا منذ عشرين سنة في طلب أخٍ إذا غضب لم يقل إلا الحق، فما أجده.
وقال بعضهم: “الناس قد مُسِخوا خنازير، فإذا وجدت كلبًا فتمسَّك به”.
وحُكي أن رجلًا كتب على داره جزى الله من لم نعرفه ولم يعرفنا خيرًا، فإن ما أوتينا في نكبتنا هذه إلا من المعارف.
وقيل لفيلسوف: “من أطول الناس سفرًا؟”. قال: “من سافر في طلب الصديق”.
وقيل لأعرابي: “ألك صديق؟ قال لا، ولكن نصف صديق، قيل فكيف انتفاعك به؟ قال انتفاع العريان بالثوب البالي”.
وقيل لبعضهم: “ما الذي أقعدك عن طلب الصديق؟”. قال: “يأسي من وجدانه”.
وقال شاعر:
إن معالم الخيرات * سُدَّت دونها الطُّرقُ.
وخان الناس كلهم * فما أدري بمن أثقُ.
فلا عقلٌ ولا حسبٌ * ولا دينٌ ولا خلقُ.
وحيث إنه ليس هناك إنسان لا يخلو من نقصٍ أو عيب، وأن الكمال قلَّ ما يدرك لأحد، فإن الصديق أيضًا يجب أن يُتغاضى عمَّا به من نقص.
فالعاقل من لا يتمنَّى ما لا يوجد، ولكن يصبر على ما يجد، إن حلوًا فحلو، وإن مرًّا فمر، إلى أن يأذن الله بالفرج من حيث لا يحتسب.
ولعلَّك تسأل:
هل جميع العيوب في الصديق مما يستحقُّ الصبر عليها، أم أن هناك عيوبًا قادحة في صداقة من به هذا العيب؟ وإن كان نعم، فما هذه العيوب كي أحذَر منها؟
الفكرة من كتاب الصداقة والصديق
يقال إن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، أي إنه لا يستطيع أن يحيا بمفرده دون أُناس آخرين، ولكن علاقات البشر لا تتبَعُ نمطًا واحدًا، بل يحكمها الكثير من المتغيرات لأن طبيعة الإنسان نفسها على درجةٍ عاليةٍ من التعقيد والتركيب الذي لا يخضع لتصنيف.
وأثناء رحلة الحياة يقابل الإنسان الكثير من الأشخاص، يربطه ببعضهم نوع علاقة ويعرض عن البعض الآخر، وعلاقاته ليست على وتيرةٍ واحدة، فمنها ما يقع تحت حيز التعارف، ومنها ما يصل إلى درجة الصداقة، ومنها ما يصل إلى حد العشق والحب .
ولمَّا كان للصداقة النصيب الأكبر من العلاقات في حياة الإنسان، أصبح لها مكانةٌ عظيمةٌ في النفوس.
فما مكانة الصداقة؟ وما صفات الصديق وخلاله وخصاله؟ وما الفرق بين الصداقة وغيرها من العلاقات؟ وهل يُمدح العتاب بين الأصدقاء أم يُذم؟
هذا ما سنتعرَّف عليه في ثنايا الرسالة التي بأيدينا.
فقد ألَّف أبو حيان هذه الرسالة عن الصداقة والصديق على نسق لم يسبق إليه أحدٌ قبله، أورد فيه قدرًا كبيرًا من أقوال الحكماء والشعراء حول موضوع الصداقة.
وكما يقول عن موضوع الرسالة هو موضوع لا يستقصي ما قيل فيه، ولو أردت الاستقصاء لمَا انتهيتُ من ذكر الأقوال، ولكن أورد أهم ما قيل فيه حتى لا تبعث هذه الرسالة على الملل والضجر.
مؤلف كتاب الصداقة والصديق
أبو حيان التوحيدي: فيلسوف وفقيه وأديب، عاش في القرن الثالث الهجري، وكان من أكثر أهل عصره معرفةً في مختلف العلوم.
كانت حياته مليئة بسوء الحظ وإعراض الدنيا عنه، ولا عجب أنَّ رجلًا بمثل ما كان عليه أبو حيان من العلم مع عدم بذل الدنيا له إلا القليل أن يصيبه بعضُ السأم والضجر من الحياة، ويُروى عنه أنه أحرق جميع كتبه قبل موته، ولذلك لم يصل إلينا منها إلا القليل.
له عدة مؤلفات أخرى وصلت إلينا مثل كتاب “البصائر والذخائر”، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة”.