عصر مظلم
ما الذي اختلف بين عصرنا ما بعد الحداثة وعصر الحداثة؟
تعود جذور الحداثة إلى عصر الأنوار من القرن الثامن عشر، فإذا عقدنا المقارنة بينه وبين عصرنا، نجد الفارق واضحًا بين الحداثة الصلبة والسائلة، وأن الاختلاف الأول يقع في مفهوم السعادة التي حظيت قدرة الإنسان التنويري بثقة كبيرة للحصول عليها بعقله ومنحها لجميع جنسه، بينما الفرد الحديث اقتصرت سعادته على محاولاته الفردية للحصول عليها.
أما الاختلاف الثاني فهو اختفاء الغاية من الأفعال، فالحداثة قطعت على نفسها وعدًا بإصلاح العالم وإقامة اليوتوبيا على أرضه، بينما العالم الحديث لا يهمه أصلًا الإصلاح ولا يضع نهاية تنبؤية لأفعاله، فهو في حركة دائمة دون غاية.
عانى الفرد من ذلك معاناة شديدة، أدَّت إلى اغترابه عن بيئته، والانسحاب من الفضاء العام والانكفاء على ذاته في لا مبالاة، وأمام عجزه عن فهم القضايا الكبرى أو نقدها يلجأ إلى اتباع الرأي العام أو القوى السائدة، من الذي من المفترض أن يقف أمام تلك الحتمية التي تحوِّل الفرد إلى آلة تستهلك فقط؟
تلك مسؤولية المثقَّف الذين لا يمانع الشعور كونه منفيًّا أو كل ما يقوله لا يفهم أو يلقى له بال، فينقد ويسائل ويشكِّك في الأنماط والقوى الاستهلاكية السائدة، لا أن يكون كما هو حال الأغلب منهم متصدِّرًا للنخب العولمية، بل يحاول أن يمثِّل مع رفقائه المنفيين محاولة حقيقية للمقاومة، مرتفعًا عن الحلول التي ستفشل حتمًا إن كانت محلية لا كوكبية، ومتحلِّيًا بالأمل مهما حاصره اليأس.
الفكرة من كتاب الحياة السائلة
عند الحديث عن مصطلحات كبيرة وغامضة مثل الحداثة وما بعدها والأنماط الاستهلاكية والقوى العولمية، يخيَّل إلى الأذهان أنها قضايا ليست مهمة بالنسبة لنا، ولا صاحبة تأثير في حياتنا اليومية كأفراد، وهذا خطأ شائع كفيل بتدميره قراءة أي كتاب لزيجمونت باومان، لنتيقَّن أن تلك المصطلحات والقضايا التي نهرب منها هي ما يشكِّل تفاصيل يومنا وأغلب أفعالنا إن لم تكن جميعها.
في كتاب “الحياة السائلة” يُناقش باومان عدَّة قضايا: مثل الحرية الفردية وصراعها مع الأمان ورغباتنا كأفراد، والظروف التي ينشِّئ فيها المجتمع أفراده، وكيف تتغيَّر باستمرار تبعًا للسوق، وما الذي ينالنا من آثار سلبية جرَّاء العولمة، وكيف يتحكَّم الخوف في أدق تفاصيل سلوكياتنا كاختيار المسكن والمنتجات التي نستهلكها.
مؤلف كتاب الحياة السائلة
زيجمونت باومان: بروفيسور في علم الاجتماع من جامعة ليدز، ولد عام 1925م ببولندا سكن إنجلترا منذ عام 1971م بعد طرده من بلاده بسبب آرائه العدائية عن الصهيونية، اهتمَّ في كتاباته بتحليل ونقد الاستهلاكية وقضايا الحداثة وما بعدها وتأثيرات حركة العولمة، ذاع صيته في التسعينيات، وتوفي عام 2017م.
من أهم أعماله “الثقافة السائلة”، و”الحب السائل: عن هشاشة العلاقات الإنسانية”، و“الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين”، و”الشر السائل: العيش مع اللابديل”.
معلومات عن المترجم:
حجاج أبو جبر: أستاذ النقد المصري، ولد في عام 1977م بالجيزة، درس الأدب الإنجليزي وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة، له العديد من الإسهامات المقالية النقدية مثل “الحداثة في خطاب عبدالوهاب المسيري”، و”سيميولوجيا العدد”، وترجم كتبًا مثل “الشر السائل: العيش مع اللابديل”، و”الحب السائل”.