الخوف في المدينة
الخوف في المدينة
كان ظهور المدينة كمأوى آمن من مخاطر الطبيعة والخوف من الغرباء فاصلًا بيننا وبين الآخرين، ولكن سرعان ما انتقل الخوف داخل المدينة نفسها، ملاحقًا السكان بالأحداث المستقبلية والمتغيرات الجنونية وسيولة العلاقات الاجتماعية وهشاشتها، بالإضافة إلى مشاهد العنف المختلفة، أمام كل ذلك العجز والخوف المهدِّد للفرد، انكفأ على ذاته واكتفى بها، ولازمه هاجس التحكم في عاداته الصحية والذاتية، كنوع من تفريغ الخوف الفائض نحو الذات.
ارتفعت أرباح تجارة الخوف، فالعربات المصفَّحة وأنظمة المراقبة الحديثة والتقنيات القتالية أصبحت غاية الأفراد القادرين الذين يحاولون تحصين أنفسهم من جديد داخل مساحات محكمة الرقابة والانفصال عن الآخرين، ولكن هذه المرة تقع تلك التجمعات السكنية داخل المدينة، وفي نفس الوقت منفصلة عنها بأسوار وبوابة وأنظمة مراقبة وتأمين خاصة بها، كانت عمارة الخوف الحل المثالي للذعر الحديث.
ذلك الهوس بالانفصال والاحتفاظ بالوجود في نفس المساحة، أدى إلى إعادة تشكيل الفضاء العام للمدن، بحيث يتم توزيع وتخصيص المساحات الخاصة لإقامة التجمعات الجديدة التي ينعم أهلها بكل ما يمكن توفيره من سبل ونعم العيش، مستأصلين
ما قد يصادف ويزعجهم أو يثير خوفهم، باختصار مدينة أعيد تشكيلها بصورة مثالية، حتى لو أدى ذلك إلى الانعزال والرتابة والملل، وصولًا إلى الفوضى نتيجة اندفاع الأفراد نحو المجهول المثير.
لا يشك أحد في أن الاختلاف يوجِد الخوف ويغذيه، ولكن بالحوار المشترك والتعايش بأسلوب متفاهم واتباع خطوات عادلة لتنمية ظروف معيشة الأفراد، سيقل هذا الخوف وسنتمكَّن من إدارته ووضعه في حجمه الطبيعي، بدلًا من اللجوء إلى مزيد من الانعزال الذي سيضاعف بلا شك من الخوف وكراهية الآخر.
الفكرة من كتاب الحياة السائلة
عند الحديث عن مصطلحات كبيرة وغامضة مثل الحداثة وما بعدها والأنماط الاستهلاكية والقوى العولمية، يخيَّل إلى الأذهان أنها قضايا ليست مهمة بالنسبة لنا، ولا صاحبة تأثير في حياتنا اليومية كأفراد، وهذا خطأ شائع كفيل بتدميره قراءة أي كتاب لزيجمونت باومان، لنتيقَّن أن تلك المصطلحات والقضايا التي نهرب منها هي ما يشكِّل تفاصيل يومنا وأغلب أفعالنا إن لم تكن جميعها.
في كتاب “الحياة السائلة” يُناقش باومان عدَّة قضايا: مثل الحرية الفردية وصراعها مع الأمان ورغباتنا كأفراد، والظروف التي ينشِّئ فيها المجتمع أفراده، وكيف تتغيَّر باستمرار تبعًا للسوق، وما الذي ينالنا من آثار سلبية جرَّاء العولمة، وكيف يتحكَّم الخوف في أدق تفاصيل سلوكياتنا كاختيار المسكن والمنتجات التي نستهلكها.
مؤلف كتاب الحياة السائلة
زيجمونت باومان: بروفيسور في علم الاجتماع من جامعة ليدز، ولد عام 1925م ببولندا سكن إنجلترا منذ عام 1971م بعد طرده من بلاده بسبب آرائه العدائية عن الصهيونية، اهتمَّ في كتاباته بتحليل ونقد الاستهلاكية وقضايا الحداثة وما بعدها وتأثيرات حركة العولمة، ذاع صيته في التسعينيات، وتوفي عام 2017م.
من أهم أعماله “الثقافة السائلة”، و”الحب السائل: عن هشاشة العلاقات الإنسانية”، و“الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين”، و”الشر السائل: العيش مع اللابديل”.
معلومات عن المترجم:
حجاج أبو جبر: أستاذ النقد المصري، ولد في عام 1977م بالجيزة، درس الأدب الإنجليزي وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة، له العديد من الإسهامات المقالية النقدية مثل “الحداثة في خطاب عبدالوهاب المسيري”، و”سيميولوجيا العدد”، وترجم كتبًا مثل “الشر السائل: العيش مع اللابديل”، و”الحب السائل”.