عصر المشاهير
عصر المشاهير
أحد تجليات السيولة في عصرنا هو اختفاء القضايا التي تستحق التضحية، فقديمًا كان الموت في سبيل قضية ما، بمثابة اعتراض على الأمور القهرية التي تواجه الفرد المؤمن بالقضية إلى حد اليقين الذي يدفعه عند مرحلة ما إلى إهمال كل الحسابات المنطقية والمادية والبراجماتية عن العائد النفعي الذي سيحصل عليه إن ضحَّى بنفسه، وغالبًا ما سيرميه الموت بالنسيان، ويكتفي بالنزعة الأخلاقية الراضية عن فعله.
كانت الشهادة في سبيل الأديان، ثم تحوَّل الشهيد إلى بطل، والدين إلى وطن قومي، وتم تأليه الأمة ومؤسساتها، وتغذية القيم الوطنية لدفع الأفراد لنيل البطولة المشرِّفة، التي دائمًا ما صبغت بكل ألوان الفخر والاعتزاز، وعلى عكس الشهيد في الدين الذي تكون شهادته توبةً من خطاياه، تبذل الدولة قصارى الجهود لكي توفي واجبها نحو البطل بدايةً من تخليد ذكراه إلى تكريم أهله، وهذا هو البطل الحديث.
والآن نرى، وبوضوح شديد، ألا شيء يعلو فوق الرغبات الفردية، لا مكان للقيم والتضحية والأبطال والشهداء في المجتمع الاستهلاكي الحديث، بل وينظر إليهم بغرابة شديدة، وتوصف الثقافات المختلفة التي ما زالت تمركِز تلك القيم بالتخلُّف والتطرُّف والجمود.
لأن المقاييس التي تعتمدها الحضارة الحديثة مادية، فالأفراد يفنون أيامهم بالبحث عن اللذة، ولكن ظهرت ثنائية المشاهير والضحايا كبديل جديد على الساحة، فتوجَّهت كل مظاهر الاهتمام والتكريم إليهم، عبر حوارات وبرامج وصور وتخليد الأسماء في الفضاء الإعلامي، صانعين بذلك المحكَّ الوحيد في استحقاق الرفعة وهو الاشتهار.
الفكرة من كتاب الحياة السائلة
عند الحديث عن مصطلحات كبيرة وغامضة مثل الحداثة وما بعدها والأنماط الاستهلاكية والقوى العولمية، يخيَّل إلى الأذهان أنها قضايا ليست مهمة بالنسبة لنا، ولا صاحبة تأثير في حياتنا اليومية كأفراد، وهذا خطأ شائع كفيل بتدميره قراءة أي كتاب لزيجمونت باومان، لنتيقَّن أن تلك المصطلحات والقضايا التي نهرب منها هي ما يشكِّل تفاصيل يومنا وأغلب أفعالنا إن لم تكن جميعها.
في كتاب “الحياة السائلة” يُناقش باومان عدَّة قضايا: مثل الحرية الفردية وصراعها مع الأمان ورغباتنا كأفراد، والظروف التي ينشِّئ فيها المجتمع أفراده، وكيف تتغيَّر باستمرار تبعًا للسوق، وما الذي ينالنا من آثار سلبية جرَّاء العولمة، وكيف يتحكَّم الخوف في أدق تفاصيل سلوكياتنا كاختيار المسكن والمنتجات التي نستهلكها.
مؤلف كتاب الحياة السائلة
زيجمونت باومان: بروفيسور في علم الاجتماع من جامعة ليدز، ولد عام 1925م ببولندا سكن إنجلترا منذ عام 1971م بعد طرده من بلاده بسبب آرائه العدائية عن الصهيونية، اهتمَّ في كتاباته بتحليل ونقد الاستهلاكية وقضايا الحداثة وما بعدها وتأثيرات حركة العولمة، ذاع صيته في التسعينيات، وتوفي عام 2017م.
من أهم أعماله “الثقافة السائلة”، و”الحب السائل: عن هشاشة العلاقات الإنسانية”، و“الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين”، و”الشر السائل: العيش مع اللابديل”.
معلومات عن المترجم:
حجاج أبو جبر: أستاذ النقد المصري، ولد في عام 1977م بالجيزة، درس الأدب الإنجليزي وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة، له العديد من الإسهامات المقالية النقدية مثل “الحداثة في خطاب عبدالوهاب المسيري”، و”سيميولوجيا العدد”، وترجم كتبًا مثل “الشر السائل: العيش مع اللابديل”، و”الحب السائل”.