سيادة الخوف والذعر
سيادة الخوف والذعر
ومن صور الشر السائل أيضًا اختفاء المعايير الأخلاقية المشتركة التي يمكن الرجوع إليها، بل تتم صياغة معايير سائلة يسهل تغييرها وتكييفها حسب المصالح الاقتصادية، ما أدى إلى سيادة الخوف والذعر في المجتمعات، التي اتجه أفرادها إلى الانغماس في عالم الترفيه وألعابه ورياضاته التافهة السطحية لتعزيز اللامبالاة ولعزل ضمائرهم، وتتضخَّم صناعة الترفيه وتمتد في نطاقات أوسع، وتستمر في البحث عن كيفية إشباع اللذة الاستهلاكية لجمهورها.
إضافةً إلى التحيُّز الذي نمارسه في انتقاء مواقف أخلاقية معيَّنة تتوافق مع مصالحنا أو رؤيتنا لندافع عنها فقط ونتجاهل الباقي، وهذا العمى الأخلاقي يجعل ضمير الإنسان مزيفًا، كالصنبور يغلق ويفتح وقت الرغبة، وعزَّز ذلك من جشع النظام الاقتصادي الذي أوقع الظلم الاجتماعي بطبقات كاملة، وعولم فكرة اللابديل، فأصبح الأفراد يرون الظلم والفقر والحروب على أساس حتمي لا يمكن الخلاص منها في واقع مستبد فولاذي الصنع.
فإذا أصبح الفرد يخاف من الجميع في بيئة يسودها الذعر والعجز وتغذِّيه المؤثِّرات من حوله، فما الذي يمنع قيام حرب الجميع ضد الجميع؟ ما دامت الرؤية الموجهة إلى الآخرين أصبحت منزوعة الأخلاقية وكأنهم مجرد عوائق مادية يجب تخطيها وسحقها وهزيمتها مهما كلف الأمر قبل أن تهزمنا وتعطلنا، وذلك أحد تمثُّلات الشيطان في السياسة، فالنظم السياسية تعمل على بخس قيمة الحياة الإنسانية واستبعاد الكرامة واحترام الذات من المعاملات والعلاقات القائمة بين الأفراد.
الفكرة من كتاب الشر السائل: العيش مع اللابديل
ما هو الشر؟ سؤال رغم بساطة صياغته فإنه يمثِّل معضلة صعبة، فلطالما كان الشر مرتبطًا في نظر الأديان والشرائع القديمة بالشيطان وأفعال الإنسان عندما يضل عن طريق الحق، أي أنه كان صلبًا محدَّد الشكل والملامح، تستطيع تمييزه من الخير، وتبعًا لذلك تنقسم رؤية العالم إلى أبيض وأسود، خير وشر، ولكن ماذا نفعل إذا تمَّت إسالة هذه الكتلة الصلبة، وبدأت في السريان والتغلغل في أدق التفاصيل والسلوكيات اليومية؟
هذا ما وصل إليه الشر في عالمنا الحديث، فبعد إنكار وجود الإله سقطت الأخلاق المتجاوزة للمادة وخصوصية الإنسان، واتخذ الشر السائل صورًا متعددة، وأصبح أكثر تأثيرًا في حياة الأفراد والشعوب، فما هي تلك الصور؟ وما طبيعة الشر السائل، وما هو الاختلاف بينه وبين الشر الأخلاقي القديم؟ هل عالمنا يدفعنا إلى الغرق في المزيد من الشر؟ وما البديل الذي أمامنا؟ بل وهل هناك بديل مطروح من الأساس؟
مؤلف كتاب الشر السائل: العيش مع اللابديل
زيجمونت باومان: بروفيسور علم الاجتماع من جامعة ليدز، ولد في عام 1925م ببولندا لأبوين يهوديين، طرد من بلاده بسبب آرائه عن الهولوكوست، واستقر في إنجلترا منذ عام 1971م، وله عائلة مكوَّنة من ثلاث بنات.
تناول في تحليلاته الاستهلاكية والمادية قضايا الحداثة وما بعدها، ووقف أمام حركة العولمة، وعارض وجود إسرائيل وانتقدها علنًا، وذاع صيته في التسعينيات، وتوفي عام 2017م.
من أهم أعماله: “الثقافة السائلة” و”الحب السائل: عن هشاشة العلاقات الإنسانية”.
ليونيداس دونسكيس: منظِّر سياسي وأستاذ جامعي وفيلسوف، ولد في عام 1962م بليتوانيا، عمل في جامعة فيتاوتاس الكبير ببلاده، وتولى منصب عضو الاتحاد الأوروبي منذ 2009م إلى 2014م، توفي عام 2016م بسبب نوبة قلبية، من أشهر أعماله: كتاب “السلطة والخيال”.
معلومات عن المترجم:
حجاج أبو جبر: أستاذ النقد المصري، ولد في عام 1977م بالجيزة، درس الأدب الإنجليزي وحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة، وله العديد من الإسهامات المقالية النقدية مثل “الحداثة في خطاب عبدالوهاب المسيري”، و”سيميولوجيا العدد” ، وترجم كتبًا مثل: “عن الله والإنسان”، و”الحب السائل”.