في بيروت
في بيروت
كان البيتُ هو المدرسة الأولى، والأم هي الأستاذ الأوّل، وأثرهم أكبر من أثر الجلوس على المقاعد الصلبة بين جدرانٍ من الحجارة في عقلِ الطِّفل، وكان بيتُ الدكتور عمر في بيروت بيت علمٍ وكُتب، فكان لمشاهدته لوالده وجدّهِ وأعمامهِ عظيم الأثر في ارتباطِهِ بالمعرفة، وحب الكتب، وقد تعلّم الصلاة، وقراءة القرآن، والسباحة، والتسوّق من جدِّه، وتعلّم فلسفة الحياة، والطريق الصحيح من والِده، فقد كان رجلًا ذا صدرٍ واسِع في مواجهة الحياة، ونقل هذا الشعور، وتلك السير إلى أبنائه، وتعلّم من والدتِه الجدّ في تحصيل الرزق، والحكمة في إنفاق المال، وتعلّم من عمِّه حُسين فلسفة في الاقتصاد، ومن عمّهِ حسن فلسفة في العمل، وكان أساس نشأتهِ وأثرها في نفسه هو ما عبّر عنه بالقدوةِ الحسنة، على الجانب الآخر فإن بعض الآباء قد يفسدون أبناءهم بالدّلال، فبُحسن نيّة يحملون عنهم الحياة، ومشاقها، لكن النتيجة تكون عبارةً عن عَجز في سن الشباب، وقد عايش الحرب العالميّة الثانيّة وكان لبنان تحت الانتداب الفرنسي، وقامت المفوضيّة العليا الفرنسيّة بمراقبة الصحف والكتب، وتقدّم الدكتور عمر بالكثير من المقالات والكتب وتم قبولها، غير واحد، وهو مخطوطة كتاب تاريخ سوريا ولبنان المصوّر، وحينما اعترض لوجود ما كتب في هذا الكتاب في الصحف والمجلات، ردّ عليه موظّف المراقبة أنّ كلام الجرائد يذهب في الهواء، أما في الكتاب فإن الكلام يبقى، وعلى الرغم من ذلك فبعد مرور السنوات تمت طباعة الكتاب دون أي حذف، وفي بيتهِ في بيروت، رزقه الله بأُسامة وقد كان أكبر الأبناء، ومروان الذي يليه بعد عامين، وقد عمل في لندن زمانًا، أما مازن فكان أصغر إخوته، ودرس الهندسة بجامعة عين شمس في مصر، تأثر لمُدة من الزمن بالفكر اليساري ثم عاد عنه، وهذه كانت بيروت داخل بيت الدكتور عمر وخارجه.
الفكرة من كتاب غبار السنين
هذا الكِتاب عرضٌ لغبار خطوات المؤلّف في حياتِه، تارِكًا فيه عنان التقييم للقارئ، غيرَ محتكرٍ لمعنىً أو أثر، وأغلب هذه الخطوات من الحياة الاجتماعيّة للمؤلف، ومن أسفارِه، وعملِه، ونشأته، والكتاب مكون من مقالات متفرقة نُشرت في جريدة السفير، وآثر فيها الكاتب أن تكون نابعةً منه دون أي تأثير خارجيّ؛ فرفض الحصول على أجرٍ ماديّ مقابل هذه المقالات، حتى لا يتأثر -مجبرًا- بسياسة الجريدة الداخليّة، مرّت فيها حياته بالكثير من المراحل والعناوين الرئيسة، وقد تعامل الدكتور عمر بجديّة -على عكس السائد- في كتابة مقالاته بشكلٍ عام، وذلك لسببين: أولهما أن له كُتبًا مكونة من مقالاتٍ مجمّعة، ككتابنا هذا، والثاني أن بعض كتبه كان تمهيدها مقالًا مكتوبًا في إحدى الجرائد، لذا فقد اعتنى عنايةً كبيرة بهذه المقالات.
مؤلف كتاب غبار السنين
عمر عبد الله فرّوخ: لُبنانيّ وُلِد في بيروت عام 1904م، تخرّج في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعتي برلين ارلنجن بألمانيا، نشأ في أسرة مسلمة متديّنة، واهتم كثيرًا باللغة العربية، ودعى لأن تكون اللغة الأساسية المستخدمة في الصحافة، وأتقن مع العربية الإنجليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة، عمِل في التدريس، وتوفّي عام 1987م عن عمرٍ يناهز ثلاثًا وثمانين عامًا، ورحلة زاخرة بالمؤلفات والتحقيقات والتراجم، منها تاريخ الأدب العربي، وتاريخ الإسلام المصوّر في التأليف، والسيرة النبويّة لابن عفّان، وتاريخ ابن شهاب في التحقيق.