وإليكَ نسعَى ونحفِد
وإليكَ نسعَى ونحفِد
إنَّ الطريقَ إلى المسجد هو بدايةُ النُّور، فالعبدُ في حال غفلتهِ هاربٌ من مولاه، فإذا ذهب إلى المسجد الذي هو بيتُ الله، كالعائد إليه، مُنيبًا، مُخبتًا، راجيًا، منكسرًا، ومحتاجًا إليه؛ لذا كانت الصلاةُ في المسجد من تمام العبوديَّة، وحين يصِل العبد إلى المسجد يوجِّه وجهه إلى الله (عزّ وجل) مستقبلًا القبلة كأنَّما هو اعتدالٌ عن التولِّي عن الله (عزَّ وجلَّ)، مُلقيًا بيديه، مُستسلمًا لله (عزَّ وجل)، مُسلمًا له، خاشع القلب، متوجِّهًا بوجهه وقلبِهِ إليه؛ فيُكبِّر تعظيمًا، وإجلالًا لمن بيدهِ ملكوت كُلِّ شيء، فإذا انشغل بعد التكبير، والإقرار بالحاجة والذلَّة، بشيءٍ من متاع الدُنيا وانشغل بقلبهِ عن الله (عزَّ وجل)، كان ما انشغل به أهم في نفسهِ من الله، وهذا لمجرد سماعهِ مُخزٍ، وبعد الانتهاء من التكبير شرع الله (عزَّّ وجلَّ) الاستفتاح، وهو عبوديَّة جليلة! فبتسبيح الله (عزَّ وجلَّ)، يُعلِن اللسان أن القلب خارجٌ عن الغفلة وأهلها، وثناءٌ على الله بما لا يجوز إلا له، وتحيةٌ لا تكون إلا له (جلَّ وعلا)، وخشوعٌ في أدبٍ جم، وبعد الاستفتاح تأتي الاستعاذة، وذلك لأن الشيطان أحرصُ ما يكون على صرفِ العبدِ عمَّا يكون فيه صلاحُ قلبهِ، وآخِرته، وحين خسِر الشيطان في محاولة تعطيل بدنِ المؤمن عن صلاته، سعى في تعطيل قلبهِ عن الخشوع فيها، وهذهِ الاستعاذة سلاحُ المؤمن في اللجوء إلى الله محتميًا به من كيد الشيطان، ولابن تيمية مقالة جميلة قالها لابن القيم في هذا المقام: “إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تنشغل بمحاربته، ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به، فهو يصرف عنك الكلب ويكفيه”، وحين ينصرف الشيطان يُفضي القلب إلى معاني القرآن، وينهلُ مِن خيراتِه ويروي بها روحه؛ فتتم غاية التلاوة والذِكر، وكذلك الصلاة.
الفكرة من كتاب أسرار الصلاة.. والفرق والموازنة بين ذوق الصلاة والسماع
هذا الكتاب رسالة منفصِلة من كتاب “الكلام على مسألةِ السماع”، أُعيد النظر فيها، وأُضيف، وحُذف مِرارًا حتى صارت بشكلها الحالي، وفي عقد مقارنة بين ذائقة الاستماع إلى الأغاني، وذائقة القيام إلى الصلاة وذِكر الله، يتبينُّ أن كليهما طريقان لا يجتمعان، فإذا ضعف ذوق زاد الآخر، والصلاةُ في عيون المُحبِّين لذَّة، وقرارٌ للعين، وبُستان للنفس، وصاحِب القلبِ الصادق يرى في صلاتِه الوِصال بعد طول الهجر، والماءُ البارد في جوفٍ جفَّ من حرِّ الشمس، والغيثُ الذي يُربِّي قواحِل الصدور، فلا يُفرِّط فيها، بل وينتظرها من الأذان إلى الأذان، ويكون حاله بها كحال النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) حين كان يقول: “أرِحنا بِها يا بِلال”.
مؤلف كتاب أسرار الصلاة.. والفرق والموازنة بين ذوق الصلاة والسماع
محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي: من سوريا وُلِد في دمشق عام 1292م، وتُوفي عام 1350م في الثامنة والخمسين من عمره، عُرف بابن قيِّم الجوزيَة، وتتلمذ ورُبِّي على يد شيخ الإسلام ابن تيمية وسار على نهجِه في العقيدة، وكان فقيهًا مُحدِّثًا.
كان ابن قيِّم الجوزيَة ذا أسلوبٍ أدبي جميل في أغلب مؤلفاته التي منها: “زادُ المعاد في هَدي خَير العِباد”، و“عُدَّة الصابرين وذَخيرة الشَّاكرين”، و“إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين”، وكثير من المؤلفات والعلوم التي أثرت المكتبة الإسلامية وعُلومها.