مطبخ الترميز.. معبد أم مغارة لصوص؟
مطبخ الترميز.. معبد أم مغارة لصوص؟
كانت الأسماك رفيقة التاريخ المسيحي حتى إن الرمز الذي اختاره المسيحيون الأوائل كان السمكة، كإشارة سرية يتعارفون بها في أثناء الاضطهاد الروماني، وهذا يفسر التقدير الغريب للأسماك في المطبخ القبطي إذ إنه مسموح بتناولها معظم فترات الصيام مع أنها تُعد وجبة مُرفهة خارج سياق التقشف بالكامل، وهي محملة برمزية اجتماعية أخرى بالفعل خارج سياق الدين المسيحي، فلا يوجد ذكر مصري عاش فترة مراهقة مختلطة الطبقات دون أن يتعرض لأحد تلك الأساطير المتعلقة بالفوسفور وفاعليته الجنسية، لينتج هذا خطيئة وتحديًا غير متوقع للرجل المسيحي من طبق يُعد مرضيًّا عنه مسيحيًّا وفي بعض الأحيان انتهى ذلك الصراع بخسارة مُتدرجة للجانب الروحي لصالح الجسدي.
مثلت الأديرة بالنسبة إلى المسيحيين، إلى جانب كونها مقر العبادة، ملاذًا مضمونًا للمنتجات يمثل مشروعًا جماعيًّا يخص المسيحيين ويرعى دعوتهم، وكذلك نوعًا من العمل الخيري لمساعدة هذه العائلات، التي تعتمد على بيع هذه الأطعمة المعروضة في الدير التي كانت محدودة في البداية ومقتصرة على تذكارات أو أطعمة محدودة للصيام، ولكن لم تقف الأمور عند هذا الحد فقد زاد الطلب على هذه المنتجات لجودتها المتميزة بالفعل، وللإيمان بالأمانة المسيحية فإذا قالت الدير إن هذه المنتجات عضوية بالكامل فهي كذلك بلا شك، حتى إذا كانت أسعارها مرتفعة بعض الشيء فالفرق لا يذهب لغريب، اتسعت السوق وسارعت الأديرة بإنتاج أصنافها الخاصة من مزارعها التابعة لها وبدأ يتشكل مفهوم للمنافسة، لكن يبدو أن الجميع في خضم هذا التنافس قد اتفقوا أو تناسوا وصية المسيح والثورة التي أبداها على الباعة في ساحة الهيكل وطردهم منه، وأمام هذا النص المباشر والحاسم كان على رهبان الأديرة مواجهة الصراع الأزلي بين النص والتأويل والمنفعة التقديرية، ولم تتح السوق أي فرصة لجماعة النص لكي تكبح الجماح ولو قليلًا.
الفكرة من كتاب غذاء للقبطي: دروس من المطبخ القبطي
هنا ننظر بشيء من التفصيل إلى جزء مُهمل بعض الشيء من الشخصية المسيحية، ونتعرف تفاصيل تخص الطعام وأشياء أقل أهمية، فإذا كان الحديث عن التاريخ أو المجتمع المسيحي، قفز المطبخ في الحال إلى المقدمة ممثلًا للشخصية المسيحية وتاريخها، وذلك لأن المطبخ القبطي لا يتوقف عند المأكول والمشروب فقط، ولكنه يحمل أبعادًا أخرى وتراكمات خاصة بتاريخ المصري المسيحي، وطبيعة علاقته مع المجتمع المحيط به في مختلف أمزجته وحالاته.
مؤلف كتاب غذاء للقبطي: دروس من المطبخ القبطي
شارل عقل: كاتب مصري من مواليد الإسكندرية عام 1983 م، تخرج في قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة، عمل كاتبًا حرًّا في مجلة “أمكنة” ومجلة “مجاز” ويقيم حاليًّا بالعاصمة الصينية بكين متفرغًا للدراسة والكتابة، من أشهر أعماله:
_ رواية أحمر لارنج.
_ سيناريو فيلم لمبة نيون.
_ الرواية المصورة: قنديل الجو.