انتكاس فطرة الإنسان الحداثي السائل
انتكاس فطرة الإنسان الحداثي السائل
من أهم سمات الحياة البشرية أننا نلتقي “بثقة طبيعية”، حتى في الظروف الطبيعية فإننا نقبل الغرباء، ولا نرتاب فيهم إلا إذا كان لدينا سبب وجيه، فلم نكن نتهم أحدًا بالكذب، إلا إذا ضبطناه وهو يكذب، لكن الآن، أصبح الجيل الحالي يرى أن الصورة البرَّاقة لعالم زاخر بالثقة هي صورة بعيدة المنال، لأنها صورة تتعارض تمامًا مع ما يتعلمونه كل يوم، وما تشير إليه القصص والحكايات والسرديات الشائعة عن التجربة الإنسانية، إلى جانب توصيات الحياة التي يسمعونها كل يوم، فأصبح هذا الجيل يتعرَّف على نفسه من خلال ما يشاهدونه على شاشات التلفاز، والبرامج الحوارية الموجهة التي تحمل في مضمونها شعار: “لا تثق بأحد!”، فأصبحنا بعد أن كنا نلتقي بثقة طبيعية، نلتقي بريبة طبيعية!
إن هذه البرامج الموجهة والتي تجذب ملايين المشاهدين، استحوذت على خيالهم في لمح البصر، وأصبحت بروفات عامة لإمكانية التخلُّص من البشر بعد استعمالهم! فهي تحوي رسائل على شاكلة ليس هناك أحد لا يمكنك الاستغناء عنه، فأصبحنا نعيش في عالم قاسٍ يسكنه أناس لا تعرف قلوبهم شفقة ولا رحمة، عالم فيه الأفراد يخدعون بعضهم بعضًا، ويقضون على بعضهم بعضًا، وأصبحت مقولة: “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” هي أرسخ قواعد الأخلاق في زمن السيولة، فالاجتماع البشري والعمل الجماعي، والجهد المشترك، لها معنى فقط إذا حقَّقت منفعة للإنسان، وإلا ليس هناك سبب وجيه لاستمرارها ووجب التنصُّل منها!
وأبلغ مثال على انتكاس الفطرة، هو ما أطلق عليه أنتوني غيدنز “العلاقات الصافية”، فهي الشكل المهيمن للاجتماع الإنساني في هذه الأيام، إذ يدخل الإنسان في العلاقة من أجل المنفعة والمصلحة، وتستمر العلاقة ما دام الطرفان يعتقدان أنها تحقِّق إشباعًا كافيًا لكل فرد فيها، وتنتهي متى شاء أحد طرفيها إنهاءها، ومن ثمَّ فإن العلاقة الصافية ليست مثلما كان الزواج في الماضي وضعًا طبيعيًا مسلَّمًا بدوامه واستمراره، إلا في الظروف غير العادية والقاهرة، إذ إن سبب انتشار العلاقات الصافية، هو التحلُّل من الالتزامات والمسؤوليات، فالإنسان الحداثي السائل يرى أن الالتزام تجاه شخص آخر أشبه بفخ لا بد من اجتنابه بأي ثمن، ولا سيَّما الالتزام بالزواج وتعاهدنا ألا يفرِّقنا إلا الموت.
الفكرة من كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
المرء يمكن أن يقع في الحب أكثر من مرَّة، وبعض الناس يفتخرون أو يشكون أن الوقوع في الحب والخروج منه يحدث لهم بكل سهولة، وكلنا سمعنا عن أشخاص ميَّالين إلى الوقوع في الحب وقابلين للوقوع فيه، فأهل زمننا يميلون إلى إطلاق كلمة “الحب” على أكثر من تجربة مرُّوا بها في حياتهم، إنهم أُناس لا يملكون أن يجزموا بأنَّ الحب الذي يعيشونه الآن هو الأخير، بل يتوقَّعون المزيد من تجارب الحب، فلا ينبغي أن نُدهش، فلقد انقضى عهد “الحب الرومانتيكي”، القائم على مقولة: “تعاهدنا على ألا يُفرِّقنا إلا الموت”، لقد انتهى تاريخ صلاحية هذا التعريف الرومانتيكي! إذ أصبحنا في عصر تكتنفه هشاشة العلاقات الإنسانية، وصار فن قطع العلاقات مقدمًا على فن بنائها وتكوينها!
مؤلف كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
زيجمونت باومان: هو عالم اجتماع بولندي، شغل مقعد بروفيسور علم الاجتماع في جامعة ليدز، حصل على العديد من الجوائز، وتقاعد منذ عام 1990، اشتهر بتحليلاته للحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والاستهلاكية المادية والنظام الأخلاقي، له أكثر من 70 كتابًا، منها:
الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين.
الحياة السائلة.
الحب السائل.
الشر السائل.
الخوف السائل.
المراقبة السائلة.
الحداثة والهولوكوست.
معلومات عن المترجم:
حجاج علي أبو جبر: هو كاتب ومترجم مصري، يعمل مدرس بقسم النقد الأدبي بأكاديمية الفنون بمصر، درس الأدب الإنجليزي، وحصل على الدكتوراه في النقد الثقافي من جامعة القاهرة، له عدد من المقالات النقدية، ومن ترجماته كتب باومان سالفة الذكر.