من متعة الجنس إلى الأداء الجنسي
من متعة الجنس إلى الأداء الجنسي
إن دور الجنس ليس عرضيًّا، فلا شك أن الرغبة الجنسية هي إحدى الرغبات والميول البشرية الطبيعية، التي تمتد إلى طرف آخر، وتستدعي حضور إنسان آخر، وتُشعر أي إنسان بالنقص، مهما كان مكتملًا ومكتفيًا بنفسه حتَّى يتحد مع إنسان آخر، لكن في هذه الأيام لم يعد الجماع يجسِّد إمكانية اللذة والسعادة، ولم تعد الأسرار تحيط به، وأصبح مصدر القمع والظلم والعنف والاستغلال، وأصبح الجنس فعلًا عقلانيًّا يخضع لحسابات دقيقة، ويضع في الحسبان كل المخاطر، ويلتزم بالقواعد، فصرنا جميعًا على علم بالأمور الجنسية، ولا يدرك حقيقتها أيٌّ منَّا! وعَدَ “علم الجنس” الإنسان بالتخلُّص من التعاسة الجنسية، وما زال يعده بذلك، وما زالت وعوده محل ثقة وإيمان! فتم تجريد الإنسان من الصفات البشرية وأصبح موضوعًا للفحص العلمي، مكانه الطبيعي في المعمل وغرف العمليات!.
كما أصبح هذا الإنسان محرومًا من المستقبل، والتوقُّع والالتزام، ومشاعر الأبوة والأمومة التي كانت تبارك الاتحاد الجسدي بهالة من الأسرار العجيبة، إذ تم فصل الجنس عن التكاثر، وأصبح في الإمكان أن تختار طفلك المفضل من كتالوج لمتبرعين مثلما اعتاد المستهلكون المعاصرون شراء البضائع! فإنجاب الأطفال أصبح أصعب قرار ينغِّص على الإنسان المعاصر حياته، لأنه يعني الإرجاء أو التخلِّي عن متع استهلاكية أخرى أكثر جاذبية، وهذه تضحية غالية تتعارض مع رغبات المستهلك العاقل، لأن ذلك يعني الاهتمام بسعادة مخلوق ضعيف على حساب راحة إنسان آخر، وهي طامة كبرى، تعني بالضرورة التضحية بالطموحات المهنية، بل وبالحياة المهنية بالنسبة للنساء! وذلك يتعارض مع الحياة الحديثة السائلة، لذلك فإن اكتئاب ما بعد الولادة ومشكلات وأزمات العلاقة الزوجية وحالات الانفصال الزائدة هي أمراض سائلة حديثة تنشأ بعد مجيء الطفل الأول! وبناءً على ذلك فإن انفصال الجنس عن الإنجاب نتاج مشترك للحياة الحديثة السائلة والنزعة الاستهلاكية، التي تبحث عن حلول شخصية للمشكلات الاجتماعية.
كما نجد أن العقل الحديث السائل يرى في الالتزامات الدائمة ظلمًا وغمًّا، وفي الارتباط المتين (كرباط الزواج) تبعية وتقييدًا، فكل ما يهم الإنسان الحديث السائل الإشباع الفوري للرغبة والتقادم الفوري للمادة المستهلكة، كما أصبحت العلاقة الحميمية السائدة هذه الأيام ترتدي قناعًا زائفًا من السعادة، فإذا نزعنا هذا القناع، وجدنا رغباتٍ محبطة، وأعصابًا محطَّمة، وحبًّا خائبًا، وجراحًا، ووحدة، وأنانية، وقهر، إذ حل الأداء الجيد على الفراش محل المتعة والإحساس بالنشوة والسعادة، فحلَّت الفيزيقا محل الميتافيزيقا، فاستعصت الرغبات على الإشباع!
الفكرة من كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
المرء يمكن أن يقع في الحب أكثر من مرَّة، وبعض الناس يفتخرون أو يشكون أن الوقوع في الحب والخروج منه يحدث لهم بكل سهولة، وكلنا سمعنا عن أشخاص ميَّالين إلى الوقوع في الحب وقابلين للوقوع فيه، فأهل زمننا يميلون إلى إطلاق كلمة “الحب” على أكثر من تجربة مرُّوا بها في حياتهم، إنهم أُناس لا يملكون أن يجزموا بأنَّ الحب الذي يعيشونه الآن هو الأخير، بل يتوقَّعون المزيد من تجارب الحب، فلا ينبغي أن نُدهش، فلقد انقضى عهد “الحب الرومانتيكي”، القائم على مقولة: “تعاهدنا على ألا يُفرِّقنا إلا الموت”، لقد انتهى تاريخ صلاحية هذا التعريف الرومانتيكي! إذ أصبحنا في عصر تكتنفه هشاشة العلاقات الإنسانية، وصار فن قطع العلاقات مقدمًا على فن بنائها وتكوينها!
مؤلف كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
زيجمونت باومان: هو عالم اجتماع بولندي، شغل مقعد بروفيسور علم الاجتماع في جامعة ليدز، حصل على العديد من الجوائز، وتقاعد منذ عام 1990، اشتهر بتحليلاته للحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والاستهلاكية المادية والنظام الأخلاقي، له أكثر من 70 كتابًا، منها:
الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين.
الحياة السائلة.
الحب السائل.
الشر السائل.
الخوف السائل.
المراقبة السائلة.
الحداثة والهولوكوست.
معلومات عن المترجم:
حجاج علي أبو جبر: هو كاتب ومترجم مصري، يعمل مدرس بقسم النقد الأدبي بأكاديمية الفنون بمصر، درس الأدب الإنجليزي، وحصل على الدكتوراه في النقد الثقافي من جامعة القاهرة، له عدد من المقالات النقدية، ومن ترجماته كتب باومان سالفة الذكر.