علاقات الجيب العلوي اللحظية
علاقات الجيب العلوي اللحظية
إن علاقة الحب التي ينظر إليها باعتبارها صفقة تجارية، ليست علاجًا للأرق الذي تعانيه، فالاستثمار في العلاقة غير آمن، وسيظل كذلك حتى لو تمنيت غير ذلك، وسيظل صدعًا لا علاجًا، فما دُمت تنظر إلى علاقات الحب بوصفها صفقات مُربحة وضمانات للأمان وحلولًا لمشكلاتك، يبدو أن شريكك هو الفائز لا محالة!
تُعرف علاقات الجيب العلوي بهذا الاسم، لأن المرء يحتفظ بها في جيبه، بحيث يمكنه إخراجها متى أراد وفي أي وقت، واستبدالها بعلاقات أخرى، وتتميَّز تلك النوعية من العلاقات بأنها علاقات عذبة وعابرة، تكمن عذوبتها في وعي المرء بأنه ليس مضطرًّا إلى بذل الجهد للإبقاء والحفاظ على استمراريتها، كما أنه ليس مضطرًّا إلى فعل أي شيء للاستمتاع بها، ومن ثمَّ تعد علاقات الجيب العلوي التجسيد الحقيقي للاستهلاك اللحظي للعلاقات والتخلُّص الفوري منها، ومن سماتها أنها علاقات واعية، فلا شيء اسمه حب، أو الوقوع فيه، ولا ينبغي أن تنساق وراء مشاعرك وتستسلم لها، فالغرض الحقيقي من تلك العلاقة هو “المصلحة”، والمصلحة تتطلَّب من المرء عقلًا لا قلبًا ولهانًا، إذ كلما قلَّت استثماراتك في العلاقة، قلَّ شعورك بعدم الأمان في حال تعرَّضت لتقلبات في المشاعر في المستقبل، وإذا وجدت العلاقة تفلت من قبضتك، وشعرت أن قلبك ينبض، فاعلم أنه قد حان الوقت لترك هذه العلاقة والبحث عن علاقة أخرى، وهكذا دواليك، فجيبك العلوي لا بد أن يكون خاليًا ومستعدًّا، لأنك سوف تضع فيه علاقة أخرى!
إن القارئ المتابع والمطالع للمقالات والنصائح المخصصة للعلاقات، ربما يتعلم كيف يتعرَّف على الشركاء المحتملين، وكيف تقنع الناس بأداء دور الشريك وتغريهم به، وربما يتعلم كذلك كيف أن دخول العلاقات مشكلة كونها تتضمن صعوبات تفضي إلى اضطراب وتوتر مزعج يحتاج إلى قدر من المعرفة والمهارة والتدريب للتخلص منه، والقارئ يقرأ ويتعلَّم بانتظام النصائح المقدمة، وهو في الحقيقة يتعلم “فن قطع العلاقات” والخروج منها بسلام، مع بعض الجروح التي تلتئم مع الوقت، وهكذا تفوَّق فن قطع العلاقات على فن تكوين وبناء العلاقات، وصارت العلاقات هشَّة، وقلَّما تدوم العلاقات الوطيدة أكثر من بضعة أشهر، وأحيانًا بضعة أسابيع، وتتسم العلاقات بأنها التقاء للمصالح وعائمة ومرنة وواهية، يبحث الناس عن الدخول في العلاقات لتجنُّب الهشاشة، فيجدون أنفسهم في منبتها الطبيعي!
الفكرة من كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
المرء يمكن أن يقع في الحب أكثر من مرَّة، وبعض الناس يفتخرون أو يشكون أن الوقوع في الحب والخروج منه يحدث لهم بكل سهولة، وكلنا سمعنا عن أشخاص ميَّالين إلى الوقوع في الحب وقابلين للوقوع فيه، فأهل زمننا يميلون إلى إطلاق كلمة “الحب” على أكثر من تجربة مرُّوا بها في حياتهم، إنهم أُناس لا يملكون أن يجزموا بأنَّ الحب الذي يعيشونه الآن هو الأخير، بل يتوقَّعون المزيد من تجارب الحب، فلا ينبغي أن نُدهش، فلقد انقضى عهد “الحب الرومانتيكي”، القائم على مقولة: “تعاهدنا على ألا يُفرِّقنا إلا الموت”، لقد انتهى تاريخ صلاحية هذا التعريف الرومانتيكي! إذ أصبحنا في عصر تكتنفه هشاشة العلاقات الإنسانية، وصار فن قطع العلاقات مقدمًا على فن بنائها وتكوينها!
مؤلف كتاب الحب السائل.. عن هشاشة العلاقات الإنسانية
زيجمونت باومان: هو عالم اجتماع بولندي، شغل مقعد بروفيسور علم الاجتماع في جامعة ليدز، حصل على العديد من الجوائز، وتقاعد منذ عام 1990، اشتهر بتحليلاته للحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والاستهلاكية المادية والنظام الأخلاقي، له أكثر من 70 كتابًا، منها:
الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين.
الحياة السائلة.
الحب السائل.
الشر السائل.
الخوف السائل.
المراقبة السائلة.
الحداثة والهولوكوست.
معلومات عن المترجم:
حجاج علي أبو جبر: هو كاتب ومترجم مصري، يعمل مدرس بقسم النقد الأدبي بأكاديمية الفنون بمصر، درس الأدب الإنجليزي، وحصل على الدكتوراه في النقد الثقافي من جامعة القاهرة، له عدد من المقالات النقدية، ومن ترجماته كتب باومان سالفة الذكر.