في العلم والسياسة
في العلم والسياسة
يرجِّح زكي مبارك أن الركود الذي تعانيه أمتنا اليوم ما هو إلا نتيجةً طبيعية لاهتمامنا بالماضي السحيق من التاريخ على الحاضر، بتنا نهتم لأمر الأموات أكثر من الأحياء، بل حتى أولئك الأموات هم بعيدون كل البعد عن عهدنا، فالطالب مثلًا يعرف من أمر امرئ القيس أكثر مما يعرف عن البارودي وإسماعيل صبري وإمام العبد، كما أن معرفته بالعصر الأموي والعباسي تفوق ما يعرفه عن النهضة والعصر الحديث، بالإضافة إلى ذلك فالطلاب يكتفون بما بين أيديهم من مناهج دراسية غير وافية، فيقف الطالب على أشياء مسرودة سردًا مخلًّا، فلا يفعل كما يفعل أهل فرنسا مع تاريخهم من نقد وتمحيص حتى إنهم -لكراهيتهم الملكية- يعدون موت الملك فلان من حسناته، وأن ذلك خير من حياته، وما ذلك إلا لتشرُّبهم بالنظام الجمهوري الذي يُعطَى فيه الرئيس سلطات أكثر ما تكون معطَّلة أو معلَّقة، فلا يمكنه استخدامها إلا بموافقة سلطات أخرى، وهكذا تراقب كل سلطة الأخرى وتكون مسؤولة عن الإشراف عليها، ويجب علينا أن نفيق من هذا السُّبات، فإننا اليوم نبحث عن إثبات أن العرب قد وصلوا إلى أمريكا قبل أن يطأها غيرهم، وهو أمر محمود لكن حاجتنا إلى محو عار رضانا بالاستعباد وصبرنا عليه كل هذا الزمن، وإن استطاع الغرب احتلال القطر العربي في أقل من أربعين سنة فقد كنا نحن نفرح بوصولنا إلى قطع وأجزاء يسيرة من أوروبا ونفكر بفتح أمريكا وغيرها، أقول حاجتنا إلى محو ذلك العار أشد وأعظم.
وبالحديث عن طلبة الحي الشهير بباريس والذين يجتمعون في الحديقة غالبًا للهو أو المذاكرة فإنهم طبقات، فمنهم طلاب الآداب والعلوم الذين يلبسون رداء الوقار بصورة أو بأخرى، فمهنتهم محصورة في التدريس الثانوي غالبًا، وتُقام لهم الحفلات من حين إلى آخر، ويشترط لحضورها أداء التكليفات والالتزام الدراسي، وهناك طلاب الحقوق الذين هم أقرب إلى الأندية وأماكن اللهو من غيرهم هناك، أما طلاب الطب فهؤلاء أسعد الطبقات إذ يُتاح لهم باسم العلم ما لا يُتاح لطلاب الأدب من الحديث في أمور وقضايا جنسية، ولكن الملاحظ أنهم يسرفون في استغلال هذه الحرية كثيرًا.
الفكرة من كتاب ذكريات باريس
رحل زكي مبارك إلى باريس في بعثة دراسية لخمس سنوات فكان يدوِّن يوميات منفصلة يمزج فيها الصورة بالوجدان، والفكر بما تبصره العينان؛ فنقل إلينا نبض باريس حيًّا من مدينة وسكان ومعالم وطباع ومشاهد ووقائع، كما نقل إلينا نبضه هو في تلك التجربة من أحاسيس ومشاعر وتعليقات ومقارنات.
إنها حبيبته، برغم كل ما فيها فهي حبيبته حتى قال عنها: “وستظل باريس قبلة روحي ما بقيت في النفس ذكرى ما لقيت عندهما من عطف ورعاية وحنان”، فما الذي جعل زكي مبارك يحب باريس كل ذلك الحب؟ وأي تجربة تلك التي بهرته رغم كل ما وُجِّه إليها من انتقادات؟ هذا هو ما تقوله لنا ذكرياته في باريس.
مؤلف كتاب ذكريات باريس
زكي مبارك: شاعر وناقد ومفكر وأديب مصري وُلد عام 1892 بمركز أشمون بالمنوفية، درس في الكتَّاب منذ طفولته وحصل على ثلاث درجات دكتوراه لاحقًا، وكان من أحد المشاركين في ثورة 1919م بأشعاره الحماسية، ثم عزف عن المشاركة السياسية لأسباب رآها وسافر إلى العراق فمُنح هناك “وسام الرافدين”، وتوفي عام 1952م تاركًا خلفه إرثًا أدبيًّا وفكريًّا مختلفًا ألوانه، ومنه:
“مدامع العشاق”.
“وحي بغداد”.
“ليلى المريضة في العراق”.
“النثر الفني في القرن الرابع”.
“الأسمار والأحاديث”.