انتقالات فارقة
انتقالات فارقة
0
بعد بلوغ الصبي عامه العاشر (1942) انتقل للعمل في القاهرة بناء على تشجيع أخيه، ورغم رفض أبيه بادئ الأمر فقد وافق لما التمسته العائلة من موهبة ابنها، مع إيمانها بحفظ الله الصبي وإخوته.
كانت الحياة في القاهرة كعهد المدن سريعة الإيقاع، بها من المظاهر ما لم يعتده الفتى في قريته، وبها من المسارح والسينمات ما كان يسليهم كفيلم “لعبة الست” الذي كان تجربته الأولى في حضور الأفلام، لكن العربي احتفظ على مدار السنوات بإيقاعه الهادئ وخصاله، فيذكر أنه خرج من مسجد الحسين يومًا بعد صلاة الفجر ليجد حليبًا قد أريق من البائع على الأرض، فلم يهدأ باله حتى أخرج منديلًا قماشيًّا وأزال أثره حفظًا لنعم الله وتوقيرًا لها، وذلك عهد أهل الريف، فهم يقدِّرون النعمة بلا إسراف، ويأكلون قدر حاجتهم فقط، ولا يرمون حتى الفتات، وكذلك لم تخلُ القاهرة من بعض المشاهد الريفية كقطيع الأغنام والماعز الذي يقوده رجل ريفي بسيط يبيع حليبهم الطازج بسعر زهيد جدًّا.
شاء الله في ذات العام أن تقوم الحرب العالمية الثانية، وتتخذ منطقة العلمين بالقرب من الإسكندرية ساحة للحرب بين الألمان والإنجليز، مما أسفر عن نشوب أزمة الخبز واصطفاف طوابير دامية يملؤها الصراع والمشاجرات للحصول على لقمة تسد الجوع، وكانت مشاهدة تلك المشاجرات قد جعلت الصبي يتخلى عن دوره في الطابور الطويل ويبيت ليلته جائعًا لما رأى أنها لا تليق بكرامته.
وفي ذات الفترة الدامية تعرضت المناطق المأهولة لعدد كبير من القنابل الكاشفة التي يتبعها غالبًا قنابل مدمرة، جعلت في نفس الصبي يقينًا أن الموت موقَّت بمواقيت لا تتغير ولو تداعت الدنيا من حولك، ومن ثم ملأت قلبه بإيمان استمده من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فاتخذ الموت المحاط به دافعًا للحياة والبذل طالما لم تحن ساعته بعد.
الفكرة من كتاب سر حياتي: حكاية العربي
من طفل يتاجر في قروشه المعدودات إلى ملياردير جل همه توظيف أكبر عدد من العاملين ليكون لهم عونًا وسببًا بعد الله (عز وجل)؛ إنه رجل الأعمال المصري والاقتصادي المحترف، رئيس اتحاد غرف تجارة مصر “محمود العربي”، الذي أسر الجميع بحسن خلقه وأسسه القويمة، مع انتماء غير مسبوق إلى أصله البسيط ونشأته الدينية في قرية أبو رقبة بالمنوفية، كتب قصته مذ كان في الخامسة من عمره بشقاء وكد لا يعرف الاستسلام، وبتضحيات حقيقية تخلو من كل رياء وتكلُّف وزهو، بل يزينها الصدق والأمانة وحفظ الحقوق كمفاتيح سرية لكسب القلوب ونيل البركة، وقد نجح في ذلك حتى كانت جنازته (رحمه الله) مهيبة غير مسبوقة يعتصرها الألم على المفقود، وها نحن نستدرك أجزاء من حياته علَّنا ننتفع بما تركه من أثر طيب ومنهاج في الإدارة والأخلاق والتجارة على حد سواء، ثم نترحَّم عليه وندعو له بخير الجزاء، فسيرته الحسنة هي رزق من الله لعبده، وعمر آخر لا يفنى بفناء الجسد.
مؤلف كتاب سر حياتي: حكاية العربي
خالد صالح مصطفى السيد: كاتب ومهندس ومستشار إعلامي من مواليد القاهرة عام 1962، حاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة القاهرة عام 1985، وقد شارك في كثير من الأعمال متباينة المجالات كوضع مناهج تربوية وبرامج ترفيهية وتنموية لعدد من رياض الأطفال بالقاهرة، وكتابة السيناريوهات والمسرحيات والمقالات وتنفيذ ورش العمل الفنية والتنموية، فضلًا عن مهام الإشراف على تطوير مجلة نقابة المهندسين المصرية.