إشكالية المفهوم والتصوُّر التاريخي
إشكالية المفهوم والتصوُّر التاريخي
لم يعرف التاريخ ظاهرة تاريخية حملت مصطلحًا مناقضًا لحقيقتها مثل “الحركة الصليبية”، فمنذ أن دعا البابا “أربان الثاني” إلى شن حملات تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين؛ غدت الحملات الصليبية مثار جدل بين العديد من الأطراف شرقًا وغربًا، واستمرَّت بالتحكُّم في أفكار الغرب الأوروبي أكثر من ثلاثة قرون، ولا تزال إلى اليوم ملهمة في الأدب والفن والسياسة، وتحوَّلت الحرب الصليبية في المخيال الأوروبي إلى مثال يوحي بالشجاعة والفروسية، وأنها كانت نبيلة المقصد وتحمل شعلة الحضارة إلى البدو في الشرق، ويشترك في هذا التصوُّر الرجل العامي في الشارع والسياسي في قصر الحكم.
وعلى الجانب الآخر، دفع المسلمون ضريبة أحلام الأوروبيين في الماضي البعيد بسبب احتلال بلادهم لمدة تزيد عن القرنين بذلوا فيها من دمائهم وأرواحهم الكثيرَ، وكانت سببًا في تعطُّل مسار نهضتهم، وفي الماضي القريب فإن الحملات الصليبية كانت المشروع الاستعماري الأوروبي الأول ضد الشرق العربي وكان ملهمًا بدرجة لا يمكن تجاوزها للاستعمار الحديث الذي يعاني العرب من تبعاته إلى اليوم، وكذلك إلهامًا للتجربة الصهيونية وأهدافها الاستيطانية.
وعلى الرغم من هذه المركزية التي تستحوذ عليها الحركة الصليبية، فإن المشكلات البحثية المتعلقة بها كثيرة جدًّا، أولها من ناحية المصطلح، فقد ارتبط اسم الحركة بالصليب بعد نحو قرن ونصف من بدايتها (أواخر القرن الثاني عشر الميلادي)، في حين كان يُطلق على الغزاة في الحملات الأولى مصطلحات مثل “الحجاج” وتسمَّى الحملات بأسماء مثل “الحرب المقدسة”، أو “الرحلة إلى الأرض المقدسة”، وغيرها، وكلها بعيدة عن “الصليب” الذي هو رمز الفداء والتضحية في سبيل الآخرين لا رمز الحرب والدمار.
بالمثل، استخدم مَنْ عاصر الحملة من المؤرخين المسلمين لفظ “الإفرنج” للدلالة على الغزاة الأوروبيين، ولم يكن هؤلاء المؤرخون في البداية مدركين لأبعاد الحركة الصليبية التي تتجاوز الأهداف العسكرية، ثم توقف البحث التاريخي العربي حول “الصليبية” بُعَيد القرن الثالث عشر، حتى عاد في القرن التاسع عشر لكنه كان متأثرًا بمناهج المستشرقين في الدراسة والبحث.
الفكرة من كتاب ماهية الحروب الصليبية
عندما نذكر الحروب الصليبية، فنحن لا نتحدث عن حرب انتهت بانتصار أحد الطرفين ثم طواها التاريخ، إنما نتحدث عن حرب استمرت مائتي سنة ولا يزال أثرها باديًا حتى اليوم.
هذا الكتاب يرصد ويناقش الأيديولوجيا التي حرَّكت جيوش أوروبا في حربها الطويلة ضد المسلمين، وكيف قاوم المسلمون الأخطار المحدقة بهم، وما الآثار طويلة المدى التي خلَّفتها الحرب على المسلمين؟
مؤلف كتاب ماهية الحروب الصليبية
الدكتور قاسم عبده قاسم: (1942 – 2021) مؤرخ ومترجم مصري، حاصل على الدكتوراه في تاريخ العصور الوسطى، وعضو الهيئة الاستشارية للمركز القومي للترجمة، له مؤلفات مهمة مثل: “أهل الذمة في العصور الوسطى”، و”بين الأدب والتاريخ” وغيرهما، إضافةً إلى ترجمة العديد من الكتب مثل: كتاب “تأثير العرب على أوروبا العصور الوسطى”.