لقاء الضريرين
لقاء الضريرين
تُفتَح أبواب القصر فتخرج منها فتاة بخمار شفَّاف أسود وصليب ذهبي صغير على صدرها، ومن ورائها غلام يحمل الكتاب المقدس، ما إن لمحت سعيدًا حتى توجَّهت إليه رافعة قناعها سألته بلغة عربية ثقيلة أغريب هو عن المكان، ليجيبها أنه ضل طريق النزل الخاص بالغرباء، لمست الفتاة فيه عزًّا وشرفًا وسارت به إلى مكان الخان الذي يريد، فحيَّته بابتسامة عذبة وأبلغته أن يلجأ إليها إذا ما احتاج شيئًا، ثم رحلت إلى كنيستها.
بعد هذا اللقاء القصير تبدَّلت رؤية الأمير إلى غرناطة، واستحالت من وحشة إلى أنس، وهدأ بعض ما اعتلى صدره من ضيق إذا ما رأى المساجد المحوَّلة إلى كنائس، وصار يبحث في القصور وبين الناس والكنائس عن وجه الفتاة علَّه يراها مرة أخرى، لكن بلا جدوى فصار يبكيها كما يبكي إرثه.
أما الفتاة فاسمها فلورندا، وهي ابنة رئيس “العصابة المقدسة”، مؤسسة تقوم في وجه الحكومة مطالبة بالحرية الدينية والشخصية، فاغتيل والدها ثم ماتت والدتها حزنًا عليه، وصارت الفتاة وحيدة بلوعتها تنتقل من قصرها إلى الكنيسة في زهد وتبتُّل، فلقِّبت بالراهبة الجميلة.
في جولة قرب مقبرة بني الأحمر، لمحت شابًّا عربيًّا يبكي على قبر، دنت منه، فإذا هو سعيد وقد عرفها وعرفته، فرثت الراحلين وحثَّته أن يكثر البكاء فقد جف التراب لقلة الباكين عليهم، ودار حديث بسيط بينهما أخبرها فيه سعيد أنه عبد لبني الأحمر ولم يستطع دخول القصور والآثار، فوعدته إن جاء في الغد أن تأخذه.
وفَّت فلورندا بعهدها واستمر اللقاء أيامًا تريه آثارًا ثم يفترقان، ولم يبقَ لهما إلا قصر الحمراء، وما إن دخله حتى هاج الألم وتجلَّت الذكرى، حاول الأمير كتمان أمره بعيدًا عن فلورندا، لكن رؤيته لسطر مكتوب على باب غرفة من غرف الأمراء جعلته يصرخ: “وا أبتاه” وسقط مغشيًّا عليه، ليفيق على وجه الفتاة وقد فاضت أعينهما بالدمع، وأخبرته بأنها شعرت بما يخفيه، استمر الحديث وانتهى بإعرابه عن حبه إياها ثم أجابها عن سؤالٍ لها أن دينها لا يشغله ولا شأن له بمعتقدها، وبادلته ذلك الشعور البائس لكنها تراه بلا أمل، وأن القلب جمعهما وفرَّق بينهما الدين.
الفكرة من كتاب العبرات
العبرات مؤلف يحوي قصصًا تخوض في أبرز الصراعات المجتمعية حينها، وتفتح المجال واسعًا أمام فيض مشاعر مضطربة تعتصر لها القلوب شجنًا، فلا تدري أتتنهَّد عجبًا من جزالة الألفاظ أم أراقت دمعك المعاني الغنية، وقد جاء الكتاب في أربع حكايات ألفها المنفلوطي بنفسه وردت كالآتي: اليتيم، والحجاب، والهاوية، والعقاب، تلحقها أربع مترجمة أخرى، وهي: الشهداء، والذكرى، والجزاء، والضحية.
الجامع بين الروايات الثماني هو ألوان الشقاء والمآسي التي تُختتم بها، فلا تبتئس وتنفر قبل أن نبدأ، فليست تتشابه دوافعنا للحزن مع ما كانت عليه في بعض القصص، بينما ظل البعض الآخر نموذجًا حيًّا لآفات عصرنا ومشاكلنا، لذا حاول جاهدًا أن تستقي الحكمة من كل مطروح لعلَّك تظفر بما أغفله الكثيرون، أو جِد لنفسك سلوانًا بين مصابهم، فلمثل هذا السبب أوجد المنفلوطي العبَرات… للتعزية والمواساة.
مؤلف كتاب العبرات
مصطفى لطفي المنفلوطي: ولد الكاتب والشاعر نابغة الأدب عام 1876م لأب مصري وأم تركية، تلقَّى تعليمه في كتَّاب القرية أول الأمر، ثم انتقل إلى الأزهر ليستزيد من العلوم الشرعية والآداب، وانفرد المنفلوطي (رحمه الله) بكتابة بليغة أعجزت معاصريه، فكان ممتلكًا للُّغة حق الامتلاك، وله من القدرة ما يعينه على تطويعها كيفما شاء، فتنوَّعت مؤلفاته بين الشعر والمقال والمترجمات المنقولة من لغات أخرى والموضوع مما ألفه من قصص وروايات، نذكر من أعماله: مجلد “النظرات” في أجزائه الثلاثة، و”ماجدولين” و”في سبيل التاج”، وقد انتقل إلى جوار ربه في عام 1924م.