من الماضي
هذه رواية ترجمها المنفلوطي (رحمه الله) كما اعتاد الترجمة، ثم صاغها في قالبه البلاغي، فخرجت لنا “الذكرى”، ولو أن مطلعها من مشاهير الحقائق التاريخية المختلف على بعض تفاصيلها المتفق في هيكل أحداثها، لذا لنستحضر معًا الأندلس ونستجمع ذكراه، فهو بالأمس أرضٌ لنا واليوم مسرح أحداث نرويها على أربعة أجزاء..
من منا لم يسمع عن أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة وقصة انكساره أمام فرناندو والملكة إيزابيلا؟ بتلك القصة استهلَّ الكاتب حديثه، بأبي العبد واقفًا على الأطلال وحوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر، قُبيل نزوله سفينة ترحيله إلى أفريقيا، وقد سبق الدمع أنفاسه وهو يرسل نظرات لن يسترجعها إلى المُلك الضائع، وإذا بشيخ ناسك على باب مغارة ينادي باسمه ويقول:
“نعم، لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء، فإنك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال، إنك ضحكت بالأمس كثيرًا، فابكِ اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس، فالسرور نهار الحياة والحزن ليلها، ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم، لو أن ما ذهب من يدك من ملكك ذهب بصدمةٍ من صدمات القدر، أو نازلةٍ من نوازل القضاء، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة، لهان أمره عليك، أما وقد أضعته بيدك، وأسلمته إلى عدوك باختيارك، فابكِ عليه بكاء النادم المتفجِّع الذي لا يجد له عن مصابه عزاءً ولا سلوى…”.
تبع ذلك القول قولٌ كثير به ما به من الذم والنهر والتأنيب على فادح الأخطاء المرتكبة، أشار فيه إلى ما قضاه من سبعة أعوام ينتظر هذا اليوم المحتوم، في ظل التصرفات البالية وما نشب بين القوم من انقسامات وأطماع على السلطان، ثم ذكَّره بما سيكونون عليه من عرض أمام الله يوم القيامة، كيف سيسألون عن دماء المسلمين المراقة، ودين الله الذي هبطوا به من علياء مجده… استمر كلامه الطاعن حتى خنقته العبرة وانصرف عائدًا إلى مغارته، وغادر بنو الأحمر ليكتب التاريخ بذلك “جلاء العرب من الأندلس بعدما عمروها ثمانمائة عام”.
الفكرة من كتاب العبرات
العبرات مؤلف يحوي قصصًا تخوض في أبرز الصراعات المجتمعية حينها، وتفتح المجال واسعًا أمام فيض مشاعر مضطربة تعتصر لها القلوب شجنًا، فلا تدري أتتنهَّد عجبًا من جزالة الألفاظ أم أراقت دمعك المعاني الغنية، وقد جاء الكتاب في أربع حكايات ألفها المنفلوطي بنفسه وردت كالآتي: اليتيم، والحجاب، والهاوية، والعقاب، تلحقها أربع مترجمة أخرى، وهي: الشهداء، والذكرى، والجزاء، والضحية.
الجامع بين الروايات الثماني هو ألوان الشقاء والمآسي التي تُختتم بها، فلا تبتئس وتنفر قبل أن نبدأ، فليست تتشابه دوافعنا للحزن مع ما كانت عليه في بعض القصص، بينما ظل البعض الآخر نموذجًا حيًّا لآفات عصرنا ومشاكلنا، لذا حاول جاهدًا أن تستقي الحكمة من كل مطروح لعلَّك تظفر بما أغفله الكثيرون، أو جِد لنفسك سلوانًا بين مصابهم، فلمثل هذا السبب أوجد المنفلوطي العبَرات… للتعزية والمواساة.
مؤلف كتاب العبرات
مصطفى لطفي المنفلوطي: ولد الكاتب والشاعر نابغة الأدب عام 1876م لأب مصري وأم تركية، تلقَّى تعليمه في كتَّاب القرية أول الأمر، ثم انتقل إلى الأزهر ليستزيد من العلوم الشرعية والآداب، وانفرد المنفلوطي (رحمه الله) بكتابة بليغة أعجزت معاصريه، فكان ممتلكًا للُّغة حق الامتلاك، وله من القدرة ما يعينه على تطويعها كيفما شاء، فتنوَّعت مؤلفاته بين الشعر والمقال والمترجمات المنقولة من لغات أخرى والموضوع مما ألفه من قصص وروايات، نذكر من أعماله: مجلد “النظرات” في أجزائه الثلاثة، و”ماجدولين” و”في سبيل التاج”، وقد انتقل إلى جوار ربه في عام 1924م.