حياةٌ مؤجلة
سرق الموت والديه في عمر السادسة، فكفله عمه وأكرمه، وأنزله منزلة الابن الذي تمنَّاه ولم ينله فكان أخًا لابنته وحيدته، نشأ معها خير نشأة، أوجدت في قلبه حبًّا قال فيه: “لقد عقد الود بين قلبي وقلبها عقدًا لا يحلُّه إلا ريب المنون، كنت لا أرى لذة العيش إلا بجوارها، ولا أرَى نُورَ السعادة إلا في فجر ابتساماتها..”.
بقي هذا الشعور مُضمرًا لا يدري أهو انعكاسٌ للهيام أم امتداد للإخاء؟ جُل ما تيقَّنه استحالة البوح، لم يرد أن يؤذيها بهذا الحديث، ولم يقدم على والديها فهو اليتيم المعدم، وليس يُرتضَى بمثله زوجًا، بعد وفاة العم جاءته خادمة القصر تبلغه رغبة سيدته بتزويج ابنتها، وإنها لتخشى كراهية الخاطب لوجوده، وأن مسكنهما سيكون جناحه هذا، فتطلب منه الانتقال إلى بيت آخر تكفله فيه، أشعره ذلك بحرج وضيق حملاه على الخروج ليلًا، ولا حيلة له إلا صرَّة مال استبقاها.
بعد تنقُّل استقر في هذه الغرفة وطيف الحنين يخنقه وماله قد نفد أو أوشك، حاول بيع كتبه هربًا من حانوت المدرسة المسترزقة بالعلم، فلم يجد مشتريًا وعاد مهمومًا ليجد الخادمة في فناء البيت فاستقبلته، وإذا بها تبكي بكاء مريرًا، وأعطته مكتوبًا من مهجة قلبه جاء فيه: “إنك فارقتني ولم تودعني، فاغتفرتُ لك ذلك، فأما اليوم وقد أصبحتُ على باب القبر، فلا أغتفر لك ألا تأتي إليَّ لتودعني الوداع الأخير”، راع الفتى ما قرأ وهمَّ راكضًا، لكنها استوقفته فقد سبقه القضاء إليها، وسقط الصبي.
أخبرته الخادمة تفصيلًا ما حدث، وأردفت أن ما أصاب نفسها بعد رحيله قد نهش جسدها، وكان ذلك آخر ما كتبته سرًّا واستأمنتها إيصاله، يقول الرائي إنه ما وصل إلى هذا الجزء حتى انتفض نفضة تفيض بعدها الروح، ويعجز فيها الحديث أو البكاء، ثم دعا دعاءً يوحي بدنوِّ الأجل، وسأل جاره بصوته الخافت أن يدفنه معها في قبرها ويدفن معهما المكتوب، فأقرَّ على ذلك إقرارًا مات الصبي بعده بسلام.
هكذا فرَّقتهما الدنيا، وجمع القلبين ما نعدُّه نحن قبرًا، لكنه لهما بستان هانئ.
الفكرة من كتاب العبرات
العبرات مؤلف يحوي قصصًا تخوض في أبرز الصراعات المجتمعية حينها، وتفتح المجال واسعًا أمام فيض مشاعر مضطربة تعتصر لها القلوب شجنًا، فلا تدري أتتنهَّد عجبًا من جزالة الألفاظ أم أراقت دمعك المعاني الغنية، وقد جاء الكتاب في أربع حكايات ألفها المنفلوطي بنفسه وردت كالآتي: اليتيم، والحجاب، والهاوية، والعقاب، تلحقها أربع مترجمة أخرى، وهي: الشهداء، والذكرى، والجزاء، والضحية.
الجامع بين الروايات الثماني هو ألوان الشقاء والمآسي التي تُختتم بها، فلا تبتئس وتنفر قبل أن نبدأ، فليست تتشابه دوافعنا للحزن مع ما كانت عليه في بعض القصص، بينما ظل البعض الآخر نموذجًا حيًّا لآفات عصرنا ومشاكلنا، لذا حاول جاهدًا أن تستقي الحكمة من كل مطروح لعلَّك تظفر بما أغفله الكثيرون، أو جِد لنفسك سلوانًا بين مصابهم، فلمثل هذا السبب أوجد المنفلوطي العبَرات… للتعزية والمواساة.
مؤلف كتاب العبرات
مصطفى لطفي المنفلوطي: ولد الكاتب والشاعر نابغة الأدب عام 1876م لأب مصري وأم تركية، تلقَّى تعليمه في كتَّاب القرية أول الأمر، ثم انتقل إلى الأزهر ليستزيد من العلوم الشرعية والآداب، وانفرد المنفلوطي (رحمه الله) بكتابة بليغة أعجزت معاصريه، فكان ممتلكًا للُّغة حق الامتلاك، وله من القدرة ما يعينه على تطويعها كيفما شاء، فتنوَّعت مؤلفاته بين الشعر والمقال والمترجمات المنقولة من لغات أخرى والموضوع مما ألفه من قصص وروايات، نذكر من أعماله: مجلد “النظرات” في أجزائه الثلاثة، و”ماجدولين” و”في سبيل التاج”، وقد انتقل إلى جوار ربه في عام 1924م.