محمد علي باشا والاستشراق
محمد علي باشا والاستشراق
كانت قوى الاستعمار تراقب “محمد علي” باشا منذ صار واليًا على مصر، وعرفت ما يُحب وكيف يمكنها أن تقوده وتستغله، فما إن تولى حتى أحاطت به قناصل الدول المسيحية الاستعمارية ثم بدأت عملية السيطرة عليه، فكان أول ما كان أن أوغروا صدره على المشايخ فنفى الشيخ “عمر مكرم” (رحمه الله) إلى دمياط بعد أن أوقع بينه وبين المشايخ، وعد المستشرقون “محمد علي” بأن يساعدوه على استقرار حكمه مقابل تنفيذ أهدافهم، وطلبوا منه أن يذهب لقتال الوهابيين فلبَّاهم في الحال، وكان قد رفض تنفيذ الطلب نفسه عندما أمرته به الدولة العثمانية، ثم ظهرت فكرة البعثات العلمية من جانب عضو المجمع العلمي الفرنسي “مسيو جومار”، وقد رأى “محمود شاكر” أنها كانت تجسيدًا لفكرة نابليون في الغزو العلمي والثقافي لبلاد المسلمين.
خرجت أولى البعثات إلى فرنسا عام 1826، وتكوَّنت من 44 تلميذًا، وخرج معهم الإمام “رفاعة الطهطاوي” ليؤمَّهم في الصلوات، وقد كان ذا تربية دينية أزهرية وإمامًا واعظًا، فتعلَّم الفرنسية ودرس العلوم والآداب هناك، وسرعان ما تم استغلاله بواسطة المستشرق المشهور “سلفستر دي ساسي”، وحينما عاد إلى مصر أوعز إلى محمد علي بفكرة إنشاء “مدرسة الألسن” التي هي فكرة الاستشراق في الأصل، كما يقول “محمود شاكر”، ولأنه لم يكن هناك من المصريين من هو أهل لتدريس مناهجها، فتم استقدام المعلمين الأجانب والمستشرقين لتدريسها، وتوَّلوا تعليم وتثقيف 150 تلميذًا.
وبعد عهد “محمد علي” انقسم التعليم إلى قسمين: المدراس العامة، والمعاهد الأزهرية، وبدأت الفجوة بينهما تتسع، ومناهجهما تختلف، ثم جاء بعد ذلك الاحتلال الإنجليزي، وبدأ الاستشراق الإنجليزي يدمِّر كل ما أنشأه الفرنسيون، وسعى للتحكم في التعليم المصري لتحقيق ذات الهدف الاستشراقي؛ وهو تفريغ المصريين المسلمين من ثقافتهم العربية الإسلامية، عن طريق مناهج التاريخ واللغات والعلوم الخاصة بالغُزاة.
الفكرة من كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا
إنَّ المدخل الوحيد لاستخلاص واستنباط أصول الثقافة العربية والإسلامية عند “محمود شاكر” هو منهج “التذوُّق” الذي تحدَّث عنه في مختلف كتاباته، وليس في كتابنا هذا فحسب، وقضية التذوق عند محمود شاكر هي قضية حياته المحورية التي تجلَّت في كل كتاباته، الأمر الذي تعدَّى إذن القراءة المجردة للنصوص، أو حتى القراءة النقدية التفصيلية، وإنما تغلغلت حتى بلغت العظم منها والنخاع، وهي درجة عظيمة من النفوذ في البيان العربي، درجة مكَّنته من بلوغ منزلة فريدة من الاجتهاد والتغلغل في اللسان العربي فاستطاع أن يقرأ التراث العربي والإسلامي ويستنبط أصوله، بل استطاع “تذوُّق” طعم النص حتى استخلص تلك الأصول والمنهجية منه، ولم يُجرِ “محمود شاكر” تلك المنهجية على الشعر فقط، وإنما على النصوص المنثورة أيضًا، فكان منهجًا عامًّا له على كل ما قرأ.
مؤلف كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا
محمود محمد شاكر: لُقِّب بأبي فهر، وُلِد في 1 فبراير عام 1909، وتوفي في 7 أغسطس 1997 م، وقد نشأ الأستاذ محمود شاكر في بيئة متديِّنة، إذ كان أبوه كبيرًا لعلماء الإسكندرية ثم وكيلًا للجامع الأزهر، ولم يتلقَّ إخوته تعليمًا مدنيًّا، أما هو وقد كان أصغر إخوته، فقد انصرف إلى التعليم المدني، فتلقَّى أولى مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916 ثم بعد ثورة 1919 إلى مدرسة القربية بدرب الجماميز، وهناك تأثَّر كثيرًا بدروس الإنجليزية لاهتمامهم بها ولكونها جديدة عليه، ولما كان يقضي أوقاتًا كثيرة في الجامع الأزهر فقد سمع من الشعر وهو لا يدري ما الشعر!! ومن الجدير بالذكر أنه حفظ ديوان المتنبي كاملًا في تلك الفترة.
ألَّف الأستاذ “محمود شاكر” هذا الكتاب في عام 1978، تقريبًا في نفس الوقت الذي ألَّف فيه “إدوارد سعيد” كتابه “الاستشراق”، هذا الكتاب “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” لم يكن منفصلًا وإنَّما صدر كمقدِّمة لكتاب “المتنبي”.