توطين العلم
توطين العلم
اللغة ليست مجرد وسيلةٍ لنقل المعلومات، بل إنها تُشكِّل مع المعرفة والهويةِ ضفيرةً قوية، إذ تقوى اللغة وتتجدَّد وتحيا بالعلم الذي يصاغ بها، ويقوى العلم ويستقر في النفوسِ ويتفاعل معها حين يكون باللغةِ التي تألفها ليحدث ما نسميه بتوطين العلم، وهو السبيل الوحيد الذي يمنح الأمم فرصةً للمشاركة الفعالة في إنتاج العلم، ولا يمكن لأمة تتعلَّم بلغة غيرها أن تهدف إلى أكثر من استهلاك العلم وتعلم مبادئه، ولا يعدو العلم فيها غالبًا أن يكون قشورًا ورطانات، والتعلم باللغة الأم لا يمنع أبدًا الاستفادة من الثقافات الأخرى.
وتلك أمور ظاهرةٌ في الحضارات عبر التاريخ، فلم يصُغ المصريون القدماء ولا اليونان ولا الرومان علومهم وفنونهم إلا بلغتهم، وأما الحضارة العربية الإسلامية فقد وعت ذلك فكانت حركة الترجمة الواسعة في العصر العباسي وإنشاء بيت الحكمة في بغداد حيث وُطِّن العلم وتم استيعاب المعرفة استيعابًا حقيقيًّا ثم أُضيف إليها، ويصف ذلك البيروني العالم الكبير في عبارةٍ لها معنى عميق قائلًا: “وإلى لسان العرب نُقلت العلوم من أقطار العالم، فازدانت وحلَّت في الأفئدة”.
وتجارب التعريب في العصر الحديث تُبيِّن إمكانيته بل ونجاحه، كالتي كانت في عهد محمد علي في مصر وأوقف امتدادها الاحتلال الإنجليزي، وكما في سوريا إلى اليوم، والزعم بأن العلم الحديث مكون من مصطلحات باللغات الأوروبية ما يقتضي التدريس بها يُرَد عليه بأبحاث المتخصصين مثل الدكتور مصطفى ابن يخلف الذي أثبت أن نسبة الكلمات المصطلحية 25% مقابل 75% للكلمات العامة، والدكتور حسني سبح الذي يرى أن المشكلة ليست في المصطلحات بقدر ما هي في تدني القدرة على وعي العلوم والإبانة عنها بلغة وسيطة رصينة.
نحن في حاجةٍ إلى توطين المعرفة في ساحات التعليم والعمل، ولنعمِّم الثقافة ونشبع الفضول المعرفي العام في عصر الإنترنت، لأن الصورة الحالية المشوَّشة المضطربة توهن العلم واللغة كليهما في بلادنا.
الفكرة من كتاب إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية
اللغة العربية لغة عريقة، وهي من أطول اللغات عمرًا وأكثرها انتشارًا، وقد نالَت شرفًا كبيرًا حين نزل بها القرآن الكريم؛ ولم يعد الحفاظ عليها مرتبطًا بإرث لغوي فقط، وإنما بحفظ الوعاء الذي يحمل رسالة الإسلام. وقد مرت العربية عبر التاريخ بمراحل انتشار وازدهار استوعبت فيها عطاء اللغات والحضارات الأخرى، وبمراحل انحسار وذبول، والحرب التي نشهدها اليوم على لغتنا هي فصل من حكاية طويلة شهِد القرنان الماضيان على كثيرٍ من فصولها التي كتبها الاستعمار ليوهمنا أن التقدم لا يكون إلا بالقطيعة مع التراث، ذلك لأن الشعوب تُستعبد حين يُسلَب منها لسانها؛ وانطلاقًا من ذلك يتناول الكتاب مشكلة اللغة العربية التي هي مشكلة الهوية العربية من جوانب متعددة محاولًا رسم أُطُرٍ للحل.
مؤلف كتاب إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية
الدكتور أحمد درويش: شاعر وناقد مصري، حصل على ليسانس في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى وترتيبه الأول على الخريجين بكلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1967، ثم نال درجة الماجستير في الدراسات البلاغية والنقدية بتقدير ممتاز من نفس الجامعة عام 1972، ثم حصل على دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية: تخصُّص نقد أدبي وأدب مقارن من جامعة السوربون في باريس عام 1982.
وهو عضو خبير في “مجمع اللغة العربية” بالقاهرة، وقد درَّس وحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد، وفاز بجوائز عديدة من أهمها جائزة الدولة التقديرية للآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2008.
له مؤلفات كثيرة، منها: “ثقافتنا في عصر العولمة”، و”خليل مطران شاعر الذات والوجدان”، و”في صحبة الأميرين أبي فراس الحمداني وعبد القادر الجزائري”، و”الاستشراق الفرنسي والأدب العربي”، و”نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي”، وديوان “أفئدة الطير”.