نضوج التربية في الخلافة العباسية
نضوج التربية في الخلافة العباسية
كان الخلفاء العباسيون وأبناؤهم أحد أهم عناصر المجتمع العباسي، فساروا على نفس درب الأمويين في التربية والتأديب، إذ انتشرت عشرات الوصايا التربوية التي قالها خلفاء بني العباس لمؤدِّبي أولادهم، وأبرزها وصايا الخليفة هارون الرشيد، وظهر حب الخلفاء العباسيين لمؤدِّبيهم، واحترامهم لهم، فقد دخل محمد بن زياد مؤدِّب الخليفة الواثق عليه “فأظهر إكرامه، وأكثر إعظامه، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله”، وكان هؤلاء المؤدِّبون على درجة كبيرة من التقوى والخلق الرفيع، إذ كان بعضهم يتصدَّق بمعظم أجره، وارتقوا أيضًا في مدارج الدولة، واللافت أن بعض هؤلاء كانوا من الشباب صغار السن، وهذا ما نجده مع الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت (رحمه الله) حينما اختاره الناس وهو شاب يافع لتعليمهم، وتفضيلهم له على غيره من كبار السن، وظهرت آثار هؤلاء المؤدبين في أبناء وبنات الخلفاء والولاة؛ منهم المأمون الذي ظهرت عليه أمارات الذكاء والفطنة.
بدأت الحضارة العباسية تأخذ منحنى فكريًّا وتربويًّا أعمق وأشمل منذ مجيء الخليفة هارون الرشيد ومن بعده ابنه المأمون، الذي سمح بالاطلاع على ثقافة الآخر، بصورة صحيحة تخدم مشروع الأمة التقدمي، وانتشرت أيضًا الحروب الفكرية على مناهج التربية والتفكير الإسلامي بحيث لا يستطيع العلماء المدافعون عن المنهج التربوي الإسلامي الوقوف أمامها، فطلب الخليفة العباسي هارون الواثق إثارة محنة خلق القرآن من جديد، وطلب تدريسها للصبيان في الكُتَّاب، وتناولت المؤلفات الفقهية طبيعة العلاقة بين الصبيان ومعلميهم، وأوصت العلماء والمؤدبين بالالتزام بها، فمثلًا لا يضرب المؤدِّب الصبيان أكثر من ثلاثة أسواط، وإن زاد اقتصَّ منه، وكانت المساجد منذ عصر النبوة حتى ما يقرب من 350 عامًا في ظل الخلافة العباسية هي الأماكن المناسبة للتربية والتعليم، حتى ظهرت الفتاوى التي تمنع إقامة حلقات العلم في بيوت الله، وإن لم تتوقَّف تلك الحلقات رغم ذلك، وانتشرت في جميع أرجاء الخلافة.
وكان لمدينة مرو شأن كبير في الاهتمام بالعلوم، فكان لأحد علماء مرو أربعة مجالس مختلفة في علوم متفاوتة، لدرجة أن الناس أطلقوا عليه “الجامع”، إذ كان يجمع بين العلوم كلها، ومع القرآن والسنة كانت بعض المكاتب تُدرِّس أشعار العرب، وكانت للمكاتب أيضًا وظيفة اجتماعية من حيث مشاركة الأطفال في الحياة العامة، ومن ضمن الإضافات التي ظهرت معالمها في ذلك الزمن ظهور المدارس العامة؛ التي كانت بمثابة كليات وجامعات متخصصة في وقتها.
الفكرة من كتاب كيف ربَّى المسلمون أبناءَهم.. رحلة في تاريخ التربية الإسلامية
هذه رحلة في تاريخ التربية الإسلامية حيث يبدأ الكتاب بسرد هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين في تربية وتعليم الأطفال ليتدرَّج بعد ذلك إلى مراحل التربية في الحضارة الإسلامية من أموية وعباسية ومملوكية، ثم في المغرب والأندلس، ليوضِّح هذا الجانب المهم من جوانب الحضارة الإسلامية، بل الداعم الأساسي الذي قامت عليه النهضة الإسلامية، وكل ذلك يؤكد أن التقدم الحضاري والمعرفي لهذه الأمة كان وفق مشروع تربوي عظيم أسهم بصورة موازية للمشاريع الحضارية الأخرى في الارتقاء والازدهار والتقدم الإسلامي.
مؤلف كتاب كيف ربَّى المسلمون أبناءَهم.. رحلة في تاريخ التربية الإسلامية
محمد شعبان أيوب: باحث في التاريخ والتراث والحضارة الإسلامية، مؤلف وكاتب صحفي، وعمل بمركز الحضارة للدراسات التاريخية، وله العديد من المؤلفات، منها:
رحلة الخلافة العباسية.
دولة المماليك.
بيري ريس أمير الحرب والبحر.