المعرِّي في الامتحان
المعرِّي في الامتحان
ملأت مؤلفات المعرِّي الدنيا وشغلت الناس، نتيجة للأسلوب الذي اتبعه في كتابتها وما يكتنفه من الغموض، واختلفت الآراء حول تفسيراتها وما تحمله من معتقدات، كال له البعض المديح، ورماه كثيرون بأشنع التهم، وهل هناك أشد من تهمة مجاراة القرآن تُوجَّه إلى شاعر؟ بالفعل، اتهمه معاصروه أنه يجاري القرآن في مؤلفه “الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ”، على الرغم من أن الكتاب ينضح بالورع والتقوى والثناء على الله، فإن ذلك، كما يرى الكاتب، لم يشفع له عند حساده، فاتهموه بمحاولة ميزان كلامه بكلام القرآن.
لكن، إن عجزنا عن معرفة حاله من كلامه، إما لقصور في الفهم أو افتراض سوء نية مسبق، فلنتعرف أحواله من أخبار تلامذته المقربين: كان القاضي أبو الفتح تلميذًا للمعري، دخل عليه خلوته يومًا دون أن ينتبه له، وكان ينشد أبياتًا له من ديوان “ملقى السبيل” تتحدث عن الموت الذي أصاب طفلةً صغيرة قبل أمها، وأن الموت وإن تأخَّر آتٍ آتٍ لا يخطئ هدفه، ولا سبيل إلى الخلود، كأن هذه الأبيات تطرح سؤالًا دون أن تجد له إجابة، ثم تلا المعري بعدها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾، ثم انتحب وقال: “سبحان من تكلم بهذا في القدم، سبحان من هذا كلامه”.
كان أبو الفتح -حاله حال أكثر الناس- يشكُّ في معتقد شيخه، لكنه بعد أن رأى هذا منه -دون أن يعلم المعري بذلك- تيقَّن من إيمان شيخه، ومن إقراره بإعجاز القرآن الكريم وأنه فوق كلام المخلوقين، ولم يخالط أبو الفتح الشك بعد ذلك في إيمان أبي العلاء، كما دفع عنه هذه التهمة مئات الباحثين الذين عملوا على كتابه منذ طبعه، ولم يجدوا أثرًا ولو ضئيلًا لما ذهب إليه خصوم أبو العلاء، ومن العجيب أيضًا أن العديد من المؤلفين أنشؤوا مواعظ مسجوعة دون أن يشكِّك أحد في نواياهم.
الفكرة من كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
تتبَّع المؤلف في هذا الكتاب بعض المحطات في رحلة الأديب الألمعي والشاعر المشهور، الملقب بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرِّي.
إن المعرِّي أشهر من أن يُعرَّف، فهو من سار بذكره الركبان، وطبقت شهرته الآفاق وكثرت أخباره وتفاصيل أحواله، من قال عن نفسه: “وإنــي وإن كــنــتُ الأخــيـرَ زمـانُهُ.. لآتٍ بــمــا لم تَــسْــتَـطِـعْهُ الأوائل”، لكن هذه الأخبار بحاجة إلى من يمحِّصها بعين الناقد الثاقب والأديب الواعي، وهذا الكتاب يحاول مد يد العون لكل من حاول السير في متاهات أبي العلاء المعري.
مؤلف كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
عبد الفتاح كيليطو، أديب وكاتب مغربي، ولد في عام 1945م، يعمل أستاذًا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ويعد من أشهر نقاد الأدب واللغة المغاربة في العصر الحديث، وهو يكتب بالعربية والفرنسية، من أشهر مؤلفاته: “جدل اللغات”، و”لن تتكلم لغتي”، و”من شرفة ابن رشد”، وغيرها، وتُرجِمت أعماله إلى عدة لغات.