انحلال الأمم
إذا كانت هناك عوامل لتكون الأمم والحضارات وتدعيم قوائمها، فيمكن القول حينئذٍ إن إنهيار تلك الأمم وتحلُّلها يبدأ بنقض تلك الأركان وتهدُّمها، فالآلهة مثلًا ضرورة أوجدتها الحاجة البشرية، ومن ثمَّ تعد ركنًا أساسيًّا في البناء الحضاري، وعلى ذلك فالحضارات إنما تولد مع آلهتها ولا تبقى حية كثيرًا بعد موتها ، ومما يميز تلك الرغبة الوجدانية في النفوس أنها لا تخضع لسلطان العقل، كما أنها كذلك لا ترضخ في الوقت نفسه لسياط الاضطهاد، ولذا قد تجد بعضًا ممن بلغوا من الثقافة أعلاها قبولهم لبعض الأساطير الدينية على أنها حق مطلق غير قابل للنقاش، وعلى ذلك إذا انحلَّت عرى الإيمان تلك -ولو كانت فاسدة- ضرب الوهن في جسد الأمم وأصابتها عدوى الهشاشة النفسية.
كذلك يبدأ بناء الأمم بالتصدُّع كلما زاد الصراع بين المُثل والقيم الحاكمة مع النظام المجتمعي، فالقوانين والنظم والتشريعات والأعراف يبقى سلطانها بالقدر الذي توائم فيه متطلبات التطور، فالنفوذ الكنسي في القرون الوسطى، على سبيل المثال، خفت نجمه نتيجة مصادمته الضرورات التي نتجت عن تطور العالم في ذلك الوقت، كذلك يحتاج بقاء السلم المجتمعي نوعًا من شيوع المساواة الاجتماعية في الحقوق ونبذ سياسة الطبقية وحكر بعض الامتيازات على بعض الطبقات دون البعض الآخر، فالعدالة المجتمعية لازمة لتقدُّم الحضارات وحمايتها من القلاقل النفسية والسياسية على السواء.
وخلال التاريخ البشري تنقَّلت المجتمعات ما بين سلطة الآلهة وتسلُّط الملوك بالتناوب، وبدأت الأمور تتطوَّر شيئًا فشيئًا إلى أن صرنا في العصر الحديث نلقى نوعًا جديدًا من أنواع السلطة، ألا وهو جماعات المصالح المختلفة، سواءً كانوا أحزابًا سياسية أو قادة رأي أو تجمعًا اقتصاديًّا، أو غير ذلك، حيث ذهبت سلطة الفرد وحلَّت مكانها سلطة الجماعة، وهنا تزيد الأخطار التي تتعرَّض لها الأمم حيث إن قوة العدد التي تنتج عن الجماعة لا تقوم مقام التوجيه الذي يقوم على يد القادة من الأفراد، فضلًا عن سياسة التكتُّل والتحزُّب والانشقاقات بين أطياف الشعب الواحد.
الفكرة من كتاب فلسفة التاريخ
في الدائرة التاريخية نلاحظ تعاقب عدد من القوى النفسية ومصفوفات الأسباب ونتائجها المضطردة، مما يمكن القول معه إن هناك سننًا تاريخية تعمل عملها في تاريخ الشعوب والأمم، وتعدُّ فلسفة التاريخ هي العلم المنوط به أصالة الكشف عن تلك النواميس التاريخية والإجابة عن أسئلة من قبيل: لماذا تنتهي الحضارات؟ وكيف تمرض الشعوب؟ وما تجارب الصعود والهبوط للأمم وتعاقبها؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التاريخية الكبرى التي يبحث فيها هذا الكتاب.
مؤلف كتاب فلسفة التاريخ
غوستاف لوبون : طبيب ومؤرخ فرنسي، وواحدٌ من أشهر المؤرخين الأجانب الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية، ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو، بفرنسا عام ١٨٤١م، وقد درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، واهتم بالطب النفسي، وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثِّرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، مما جعل من أبحاثه مرجعًا أساسيًّا في علم النفس، تُوفِّي في ولاية مارنيه لاكوكيه، بفرنسا 1931م.
من مؤلفاته: “حضارة العرب”، و”روح الثورات والثورة الفرنسية”، و”روح الجماعات”، و”السنن النفسية لتطور الأمم”، و”سيكولوجية الجماهير”.
معلومات عن المترجم:
عادل زعيتر: مترجم ومفكر فلسطيني، وُلد في مدينة نابلس الفلسطينية عام 1895م، تخرج في كلية الحقوق في باريس عام 1925، عمل محاميًّا لفترة ثم أصبح عضوًا بالمجمع العلمي العراقي، وله العديد من الترجمات المهمة لمؤلفين كبار أمثال جان جاك روسو، وفولتير، وغوستاف لوبون، وتوفي عام 1957م