عودة باختلاف الهدف
عودة باختلاف الهدف
لدينا هنا قصتان مختلفتان، كلتاهما تبدأ بالعودة إلى الأرض، لكن المفارقة هي اختلاف الغايات، أطلق غسان على الأولى عنوان: “إلى أن نعود”، وتحكي قصة مقاوم متسلِّل عاد ليبدأ انتقامه من كل جريمة مفجعة قام بها العدو، ويتذكَّر كيف أحرقت الأراضي الزراعية التي تعلَّقت بها نفوس الفلاحين، وكيف هدمت البيوت بعد أن كانت محلًّا للسهرات الليلية مع أبناء القرية، يتسامرون ويعزِّزون بعضهم مع أنسام طيبة اعتادوا استنشاقها، وكيف هجروا وقتلوا نساء وأطفالًا وشيوخًا وشبابًا، ثم رأى صورة زوجته المصلوبة على شجرة عتيقة، غدر بها الاحتلال ولم يرحم ضعفها، فجعلت منه تلك الصور آلة لا تكل، يصل الليل بالنهار عملًا رغم التعب، يحمل المتفجِّرات بيده تحقيقًا لنضاله وانتقامًا لكل ما دمر بغير وجه حق، مستمرًّا في هذا السعي المضني إلى أن يحين الرجوع إلى أرضه.
أما قصة العودة الثانية فعُنوِنَت “درب إلى خائن”، شاب قوي البنية يحاول العودة إلى وطنه، يتوقف خلال الطريق في استراحة مع مسافرين آخرين، ليبدأ في سرد قصته بشيء من التفاخر المضني، فهو العائد ليقتل أخاه، وعلى وقع هذه الجملة العصيب، فإنه عائد ليقتل خائنًا، يعلم خيانته منذ مدة، يعلم أنه الواشي بأبناء عمومته وأهله، يعلم خرابه وتملُّك شيطانه، حاول التماس الأعذار مرة تلو الأخرى، ولم يشفع له كحل أخير إلا والدته المسنَّة المتعلقة بهذا الصغير الفاسد، حتى إذا ما توفِّيت فلم يعد من مبرر لإبقائه، لكن عليه أولًا أن ينجح في التسلُّل إلى الداخل قبل إمساك اليهود به، وعلى صعوبة ذلك فإن التسلُّل أولًا للدخول إلى الأردن بدا أصعب وأخطر، وهذه القصة بها ما بها من رمز للخلاف العربي والتطبيع مع العدو، وبخاصةٍ الصراع الناصري مع الملك حسين.
الفكرة من كتاب القميص المسروق
“القميص المسروق” قصة قصيرة يُعنون بها الكتاب ولم يقتصر عليها، فجاءت معها سبع قصص أخرى مما دوَّنه المؤلف خلال حياته، ثم جُمِعت في كتاب واحد بعد موته، وهذه الحكايات مجتمعة تخدم قضية واحدة وهي القضية الفلسطينية والقومية العربية، ولو نظرت إليها فرادى لوجدت كلَّ نص يقوم على سطر مفجع، يختلف عن الآخر في موضوعه والغاية التي يمثلها، تنوَّعت تلك الغايات فشملت الإنسان وعديد القيم كالكفاح والتضحية وحب الوطن، ومشاعر سلبية كاليأس وقتل الأحلام، وبعضها قد ناقش معضلات أخلاقية مستعصية كالخيانة على سبيل المثال لا الحصر، فهل تُفضَّل العلاقات الأسرية على الأرض؟ أم أن الوطن فوق الجميع؟ وهكذا يستمر الطرح والجواب في سياق أدبي قائم على الرمز دون الإكثار من المترادفات والإغراق في البيان والفلسفة، وهذا جُل ما يميز أسلوب غسان كنفاني.
ربما يظن البعض أن التلخيص قد يبخس جودة المنتوج الأدبي المعتمد أساسًا على إبداع الكاتب نفسه ومفرداته وتعابيره المنتقاة، بما لا يدع مجالًا لإنكار هذا الجانب، لكننا ننوِّه أن الملخص بحد ذاته وسيلة أدبية أيضًا وله جماله وغرضه، بما لا ينتقص من قدره ولا من قدر العمل الأساسي، بل هو أشبه بوسيلة عرض أعيدت هيكلتها لتنجزك وقتًا وتزيدك علمًا.
مؤلف كتاب القميص المسروق
غسان كنفاني أديب المقاومة، صاحب القلم الصارخ والكلمات المنتفضة في وجه الاحتلال الغاشم، وُلِد الصحفي والكاتب فلسطيني الهوية في عام 1936م، ملتحقًا فيما بعد بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي، ليصبح من أشهر أدباء العرب وأحد أبرز الناشطين السياسيين في العصر الحديث، له من المؤلفات ثمانية عشر كتابًا بين الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات والدراسات، والمئات من المقالات السياسية والثقافية، منها المجموع بعد موته ومنها ما اتخذ سبيله إلى العالمية، فترجم إلى لغات بلغت العشرين، ومنها ما صيغ في قالب مسرحي أو إذاعي عُرِض على صعيد الدول العربية والأجنبية، وانضم بعضها إلى صفوف المنهاج الدراسي في المدارس والجامعات، ومن أشهر تلك الروايات: “عائد إلى حيفا”، و”أرض البرتقال الحزين”، و”رجال في الشمس”.
لم يُسلَّح غسان بالشكل المعتاد العاكس للدموية، لكن وقْع ما خطَّ كان وما زال محركًا فعالًا للنفوس الثكلى والعقول الحية، وبات بمنتوجه الأدبي يمثل تهديدًا على المحتل الهش، فاغتيل إثر ذلك في بيروت عام 1972م.