السلاح الخفي
السلاح الخفي
كلما مر وقت تحولت الكرة إلى ھوى شعبي، وذلك ما جعلها محط سخط غالبية المثقفين الذين عدوها مخدرًا للعقول، وقد رأى اليساريون أنها تشغل الجماهير عن النشاط الثوري وتصيبهم بضمور الوعي وتجعلهم كقطيع يحركه الطبقيون، كذلك فبانتهاء الهيمنة البريطانية وتشكل أول الفرق في منطقة ريو دي بلاتا (الأرجنتين والأوروغواي)، عدَّها القادة الفوضويون والاشتراكيون وسيلة لمنع الإضرابات والتستر على المتناقضات الاجتماعية، فهي في نظرهم “مؤامرة إمبريالية للإبقاء على الشعوب المقھورة في طور الطفولة”.
ومن منظور دموي استُغلت الكرة من قبل السياسيين والدكتاتوريين في الانتصارات والتهديدات وشن الحروب، ففي معركة السوم عام 1916 استغل النقيب نيفيل الكرة بالركض وراءها حتى منطقة الخطوط الألمانية وفرقته من خلفه، ورغم موتهم بالقذائف فقد تمكنت بريطانيا من الاستيلاء على الأرض، وعُدَّ ذلك النصر الأول لكرة القدم الإنجليزية في جبهة الحرب! وفي مونديال 38 وصلت إلى لاعبي إيطاليا برقية من موسوليني محتواها تهديد بالقتل حال خسروا لكنهم فازوا، وفي عام 1948 هدد هتلر فريق دينامو كييف الأوكراني بالقتل إن فازوا على ألمانيا النازية، ورغم خوفهم وجوعهم أخذتهم روح الكرة الحماسية وانتصروا لكرامتهم، لذا أُعدمهم بقمصان اللعب بعد المباراة مباشرة.
وفي حرب كرة القدم تلك التي جرت بين السلفادور والهندوراس سنة 69، وصل عدد الضحايا إلى 4000 شخص في أسبوع، رغم أن دواعي الخلافات الحقيقية مختلفة، لكنَّ الحكومتين حرضتا الشعبين على قتال بعضهما بسبب مباراة كرة! أما في حرب التشاكو بين بوليفيا وباراغواي، فقد شكَّل الصليب الأحمر في الأخيرة فريق كرة قدم ليلعب في عدة مدن ويجمع المال لمساعدة جرحى الدولتين المتحاربتين، أما في إسبانيا فقد اتخذت الكرة وسيلة لإبقاء الناس سعداء وإشغالهم عن ممارسات فرانكو الدكتاتورية، فقيل على لسان أحد رؤساء نادي أتلتيكو مدريد: إنها “مناسبة لكي لا يفكر الناس بأشياء أكثر خطورة”.
لذا لم يتردد غاليانو بوصفها بـ “الفاليوم الجماعي”، وأنها لم تعد وسيلة للھروب من التوترات الاجتماعية وحسب، وإنما وسيلة لتھريب رؤوس الأموال والتھرُّب من الضرائب.
الفكرة من كتاب كرة القدم بين الشمس والظل
بعيدًا عن أحاديث المهووسين بالكرة، وعن نمطية الكتب الرياضية، يطل علينا غاليانو بأسلوبه الفريد ليرينا اللعبة من منظور أدبي مختلف، يأسرك مع المعاناة ويحررك مع الفرحة، لتتفاعل مع تبعات لم تتخيل مطلقًا أن الكرة هي محركها الأول.
هنا ستدرك الوجه الآخر لكرة القدم، ذلك الوجه المشتمل على مشاعر متضاربة، وحقائق مجهولة، والمرتبط بأبعاد سياسية واقتصادية وتحولات تاريخية لم يسبق لنا تصوُّرها، ببساطة لا يشترط هذا الكتاب اهتمامًا سابقًا بالكرة ولا إدراكًا لشروطها كي تشاركه رحلته الحزينة من المتعة إلى الواجب، ومن هواية تسلي البسطاء إلى صناعة معقدة وأداة فعالة لتحريك الشعوب.
مؤلف كتاب كرة القدم بين الشمس والظل
إدواردو غاليانو : عملاق من عمالقة الأدب اللاتيني والمفتون بالساحرة المستديرة، فكان رجل الحروف البارز في مجال كرة القدم العالمية، ولد غاليانو في الأوروغواي عام 1940 ومات في 2015، عمل خلال حياته باحثًا وروائيًّا وصحفيًّا، لكنه عاش جزءًا من عمره منفيًّا بعيدًا عن موطنه في إسبانيا والأرجنتين لأسباب سياسية.
امتاز أسلوبه بدمج المفردات والأنماط العالمية المستخدمة في الأدب، فعدَّ ملهمًا للكثيرين حول العالم، وترجمت أعماله إلى ثمانٍ وعشرين لغةً، من أبرزها:
أفواه الزمن.
أبناء الأيام.
صياد القصص.
الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية.
معلومات عن المترجم
صالح علماني: رائد ترجمة أدب الواقعية، الذي استطاع بمجهوده الفردي الغزير على مدى أربعين سنة وبكلماته السلسة أن يأخذ بأيدينا لنتطلع على أمريكا اللاتينية وأدبها كما لم يفعل غيره.
ولد شيخ المترجمين العرب في سوريا عام 1949 بهُوية فلسطينية وفارق عالمنا سنة 2019 في إسبانيا، وهي الدولة التي احتضن لغتها، وعمل في نقلها لنا بعد أن ترك دراسة الطب ومن بعدها الصحافة، حتى وجد ضالته مصادفةً في الترجمة، وقال في ذلك: “أن تكون مترجمًا مُهمًّا أفضل من أن تكون روائيًّا سيئًا”، وهكذا صار وسم “صالح علماني” على فاتحة كتاب ما شهادة بأن المضمون يستحق القراءة.