في العبادات
حين نتأمَّل في العبادات، نجد أن الصلاة رابطة ثلاثية الأطراف بين المصلي وربه وإمامه وبقية المصلين، جماعة متراصة، المناكب حذو المناكب، والأصوات موحَّدة والحركات متوافقة، تتلو الفاتحة فإذا بها بضمير الجمع (نعبد، نستعين، اهدنا)، لم تكن بصيغة المتكلم بل المتكلمين، فحتى وإن كنت تصلي بمفردك فمن خلفك جموع المؤمنين، والصلاة ترويض للنفس على الانتظام ورباط وثيق بين العبد وخالقه.
أما الزكاة فهي بمثابة ضريبة إنسانية، فمن كان غنيًّا فللفقراء عليه واجب، فهي توُثِّق الرابطة بين المسلم ومجتمعه، فالأمة كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء، وتلك هي صورة التي أراد الله أن نكون عليها، أما في الصيام فيقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فالتقوى إذًا هي الهدف، والصوم تربية وضبط للنفس وسيادة على شهواتها ومصابرة وصبر، وغلق أبواب الحس مفتاح أبواب الروح، وفي المظهر الجماعي في صوم رمضان حلقة وصل أرادها الله أن تكون بين الأمة، وصهرًا لنسيجهم.
وقد جعل الله للأمة وحدة طبيعية بوضعها الجغرافي، وجعل لها كذلك وحدة روحية من خلال تشريعاته تعالج حتى فوارق البلدان والشعوب والألسنة والأجناس، فالمسلم أخو المسلم له عليه حق النصرة ولو كان في أقصى الأرض، يأمر الإسلام المسلمين بالتجمُّع في مسجد الحي خمس مرات يوميًّا، وفي المسجد الجامع يوم الجمعة من كل أسبوع، وكل أهل المدينة في فضاء واسع في العيدين، ثم يكلِّل ذلك بجمع المسلمين من شتى بقاع الأرض في أول بيت وضع للناس، ليؤدوا فريضة الحج التي تجمع بين ثنائية المادة والروح، والفرد والأمة، جعلها الله موسم تبادل منافع ومصالح ومعارف وتجارة وتلاحم بين المسلمين من كل أطيافهم من شتى بقاع الأرض: ﴿ليَِشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾.
الفكرة من كتاب نظرات في الإسلام
من بين كل الحركات الدينية، والحركات الإصلاحية، كانت رسالة الإسلام هي الأكثر استقرارًا وتمكنًا من النفوس، والأكبر والأبعد أثرًا في المجتمعات، ودعوة الإسلام لما قامت فكأنها أنشأت الإنسان خلقًا آخر، وحوَّلته من حمية الجاهلية إلى حمية في الحق، واتحدت شخصية الداعي محمد (ﷺ)، ومنهاج الدعوة وطبيعتها، وطبيعة الأمة التي بُعث فيها النبي، اتحد كل ذلك بتدبير الله ورعايته ليتم الله لنا الدين، ويتم لنا رسالته، رسالة الفطرة والحق والإنسانية.
مؤلف كتاب نظرات في الإسلام
الدكتور محمد عبد الله دراز: إمام ومفكر مصري، ولد في محافظة كفر الشيخ عام 1894م، وهو من أسرة علمية عريقة، درس بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية عام 1916، ابتُعِث إلى فرنسا في منحة علمية بجامعة السوربون، وحصل منها على درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان، اشتغل بالتدريس في عدد من الجامعات المصرية، وكان عضوًا في جماعة كبار العلماء، كما كان عضوًا في اللجنة العليا لسياسة التعليم، وفي اللجنة الاستشارية الثقافية في الأزهر، وتُوفِّي عام 1958م.
ومن مؤلفاته:
النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن.
الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان.
زاد المسلم للدين والحياة.