صورة نرجس في الشاشة
صورة نرجس في الشاشة
جميعنا نعرف قصة نرجس الذي وقع في عشق صورته حينما اقترب من نبع الماء ليروي عطشه، فهل يمكن اعتبار نرجس رمزًا لسلوكنا الاجتماعي في العصر الرقمي؟
إننا في مرحلة تاريخية تميَّزت بوجود فجوة كبيرة بين التطوُّر الثقافي للإنسان وتطوُّره العاطفي والذهني، وكان نتيجة ذلك شعور الإنسان بالفراغ الداخلي، وبالتالي لا يستطيع إدراك معنى اللذة إلا من خلال عرض الذات، ولهذا اعتبر التقاط السيلفي فعلًا مرضيًّا، وذلك لأنه يستخدم الآخر باعتباره وسيلة وليس غاية، وسيلة لإشباع الرغبة النرجسية، وسيلة لإثبات الوجود.
بجانب ذلك شعور الإنسان بـ”الرغبة” فالرغبة هي شيء أساسي لقيام حياتنا، ولكن ما فعله العصر الرقمي أنه لم يُعطِ فرصة للرغبات، إنه يُقدِّم حالة الشبع بشكل سريع، والإشباع هو أكبر شعور يقتل الرغبة الضرورية لحياتنا البشرية، بل ويُولد رغبات جديدة تبعدنا عن أنفسنا بشكل متتالٍ سريع لا حدَّ له، فتصبح هواية الإنسان الجديدة هي حب التملُّك.
والمتأمِّل في طبيعة التصرفات على شبكات التواصل لا بد أنه سيلاحظ أن الإنسان أصبح يَعرض حياته بصورة “مثالية” خالية من المشكلات، فتختفي تدريجيًّا العلاقات الحميمية للأنماط الطبيعية، ولما هو إنساني، حتى شكله وصورته الخارجية لا بد من إضافة التعديلات أو اللمسات بالفوتوشوب حتى ينتقل “السيلفي” إلى مرحلة أشد وهي “السيلفي المزيف”.
وبتوالي الكوارث قفز السيلفي إلى ما هو أبعد من ذلك، لقد أصبح السيلفي وسيطًا لتعزيز الحُب الذاتي وعشق الإنسان لصورته الجسدية، فيُكشف الجسد دون حياء ودون مقاومة ومع بعض التعديلات تكون صورة الفرد مثالية، لذا نجده منعزلًا في حياته الواقعية لأنها حياة خالية من الفوتوشوب.
الفكرة من كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
يرفع هاتفه أمام وجهه.. يمد ذراعه.. يبتسم ويلتقط الصورة لنفسه، قد يبدو مشهدًا معروفًا ومفهومًا جدًّا في عصرنا الحديث، لكن دعنا نتوقَّف قليلًا ونتساءل: هل يبدو هذا التصرُّف طبيعيًّا؟ وهل الإنسانية الممتدة من خلال هذا المشهد ستكون طبيعية؟ وهل بالفعل سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي عملية التواصل بين البشر وجعلتهم أكثر قُربًا؟
قد يعتقد كثيرون أنه بالفعل قد أضافت مواقع التواصل الكثير من الفرص إلى الإنسان الحديث، لكن هناك جانبًا مُظلمًا، بل شديد الظلامية في هذه المواقع، إنها تخلق أشكالًا جديدة من الوهم والتضليل والتيه، إذ إن الصور التي تُلتقَط وتنتشر ما هي إلا محاكاة للكثير من التصوُّرات النفسية المشوَّهة التي تحتاج إلى تحليل وتفصيل.
قدَّمت لنا الكاتبة حقيقة الأزمة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، لنُدرك كيف أن الإنسان الحديث يعيش في سجن وهمي قد بناه بيده، بل وتحذِّرنا مما هو آت!
مؤلف كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
إلزا غودار: أستاذة الفلسفة ومحلِّلة نفسانية وكاتبة فرنسية من مواليد 1978م، تعمل باحثة جامعية في جامعة باريس كريتاي، كما أنها مديرة أبحاث التحليل النفسي في جامعة باريس، حاملة لدكتوراه في الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس التحليلي، وهي عضو الاتحاد الأوروبي للتحليل النفسي.
من مؤلفاتها:
Freud à la plage: La psychanalyse dans un transat (A la plag)
Ethique de la sincérité: Survivre à l’ère du mensonge (Hors Collection)
معلومات عن المترجم:
سعيد بنكراد: مفكر وباحث وأستاذ السيميائيات بكلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط بالمغرب، وهو المدير المسؤول لمجلة “علامات”، وهي مجلة متخصِّصة في الدراسات السيميائية، وله عدد من الأعمال منها: “وهَج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية”، و”بيرنار كاتولا: الإشهار والمجتمع”.