الإنسان يريد المزيد
الإنسان يريد المزيد
الآن حينما يريد أحدنا التعبير عن حبه لشخصٍ ما فإنه يُرسل رسالة نصية “أحبك” مع إيموجي على شكل قلب، فهل هذا يكفي لشعور الحُب بالفعل؟
إن المصداقية وقوة الانفعال والاستقبال لدينا أصبحت قليلة جدًّا مقارنةً بما كُنَّا عليه سابقًا، على الرغم من أنهما نفس التعبيرين فإنهما لا يقولان الشيء ذاته لأن هذا في زمن وهذا في زمن آخر، وذلك لأن الهاتف المحمول غيَّر في طبيعة عواطفنا، فقد انسحب الإنسان من عالمه الواقعي إلى عالم الخيال؛ إنها الإنسانية الجديدة؛ الإنسانية 2.0، فما هي هذه الإنسانية إذًا؟
الإنسانية 2.0 هي منظر لما فوق الإنسانية؛ إنها مرحلة يحدث فيها التحالف بين الذكاء الإنساني مع الذكاء الرقمي، فيؤدي هذا التحالف إلى تحوُّل الكائن الإنساني، فما فوق الإنسانية يُناصر إدخال تحسينات تكنولوجية على الإنسان لزيادة قدرته الجسدية والذهنية، ويكون قادرًا على التخلُّص من هشاشته البيولوجية، وهذا بطبيعة الحال يثير الكثير من القضايا الأخلاقية.
والإنسانية الجديدة نرى حقيقة تغيُّر الزمان والمكان بالنسبة لها؛ أما المكان فقد اختفت الحدود تقريبًا، وحلَّ مكان الجسد اللاجسد، وفقد الفضاء أبعاده الثلاثة وأصبح محصورًا في بعدين؛ هما بعدي الشاشة، وفَقْدُنا البعد الثالث الذي هو العُمق جعلنا نعيش في فضاء أفقي.
أما الزمان فقد صار محصورًا في بُعدٍ واحد “الآني”، وبالتالي أدى ذلك إلى جنون التبذير! كل شيء متاح الآن وهنا، فأصبح الإنسان بلا ذاكرة، فما الفائدة من حفظ معلومة طالما “جوجل” يحفظها؟ وكل هذا يُفقد الصبر والانتظار، لقد أصبح البعيد قريبًا، وأصبح المابعد هو الآن، وأصبح اللامرئي مرئيًّا، فلم يعد الإنسان إنسانًا.
الفكرة من كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
يرفع هاتفه أمام وجهه.. يمد ذراعه.. يبتسم ويلتقط الصورة لنفسه، قد يبدو مشهدًا معروفًا ومفهومًا جدًّا في عصرنا الحديث، لكن دعنا نتوقَّف قليلًا ونتساءل: هل يبدو هذا التصرُّف طبيعيًّا؟ وهل الإنسانية الممتدة من خلال هذا المشهد ستكون طبيعية؟ وهل بالفعل سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي عملية التواصل بين البشر وجعلتهم أكثر قُربًا؟
قد يعتقد كثيرون أنه بالفعل قد أضافت مواقع التواصل الكثير من الفرص إلى الإنسان الحديث، لكن هناك جانبًا مُظلمًا، بل شديد الظلامية في هذه المواقع، إنها تخلق أشكالًا جديدة من الوهم والتضليل والتيه، إذ إن الصور التي تُلتقَط وتنتشر ما هي إلا محاكاة للكثير من التصوُّرات النفسية المشوَّهة التي تحتاج إلى تحليل وتفصيل.
قدَّمت لنا الكاتبة حقيقة الأزمة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، لنُدرك كيف أن الإنسان الحديث يعيش في سجن وهمي قد بناه بيده، بل وتحذِّرنا مما هو آت!
مؤلف كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
إلزا غودار: أستاذة الفلسفة ومحلِّلة نفسانية وكاتبة فرنسية من مواليد 1978م، تعمل باحثة جامعية في جامعة باريس كريتاي، كما أنها مديرة أبحاث التحليل النفسي في جامعة باريس، حاملة لدكتوراه في الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس التحليلي، وهي عضو الاتحاد الأوروبي للتحليل النفسي.
من مؤلفاتها:
Freud à la plage: La psychanalyse dans un transat (A la plag)
Ethique de la sincérité: Survivre à l’ère du mensonge (Hors Collection)
معلومات عن المترجم:
سعيد بنكراد: مفكر وباحث وأستاذ السيميائيات بكلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط بالمغرب، وهو المدير المسؤول لمجلة “علامات”، وهي مجلة متخصِّصة في الدراسات السيميائية، وله عدد من الأعمال منها: “وهَج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية”، و”بيرنار كاتولا: الإشهار والمجتمع”.