إنسان الصورة
إنسان الصورة
“السيلفي” هذه الصورة الهشَّة التي تملأ العالم الافتراضي، وحقيقة هشاشتها أنها لا تعكس حقيقة الواقع الذي يخلد في الذاكرة، ولكنها تُعيد إنتاج نسخ زائفة تقوم على التمثيل، حيث أُفرغ محتواها من حقيقة الذات إلى بديلها الذي لا يستطيع تقديم نفسه إلا من خلال “صورة”، فهذه الذات الجديدة لا تتحرَّك ضمن فضاءٍ واسع تستطيع العين رؤية كل أبعاده، بل يعيش في فضاء افتراضي مساحته شاشة المحمول.
لقد أصبحنا نقول كل شيء عن أنفسنا وعن الآخرين، وكأن “المشي على الشاطئ”، أو “قراءة كتاب”، أو حتى “الأكل” حدث كبير لا بد أن يحفل بعدد من الإعجابات، وكأن أحداث حياتنا لا بد أن يُحتفل بها، وكأننا في مرحلة من مراحل المراهقة المُجتمعيَّة، فالمراهق لديه رغبة في الكشف عن كل شيء، فأصبح الآن كل شيء مكشوفًا، وكأن الحياة الخاصة صارت نوعًا من الشذوذ الذي لا يستطيع المجتمع فهمه.
إن “مرحلة السيلفي” أظهرت كيانًا جديدًا يمكن تسميته بـ”الذات الافتراضية”؛ إنها ذات تعيش في عالم “هُنا/الآن”؛ إنه الزمن الافتراضي، زمن غير قابل للقياس، فهو لا يخلق ذكريات ولا يحمل في ذاته رؤى وأمنيات، وبهذا تحوَّلت الحياة الحقيقية إلى “لحظة مستقطعة”، وهذا بدوره أدَّى إلى تعطيل التفكير العميق والتأمُّل في الذات والمحيط الذي حولنا؛ إننا محاصرون بلحظة الحاضر فحسب.
أما واقع هذه الذات فهو الصور التي تُشبه الواقع لكنها ليست الواقع، فنحنُ بذواتنا الافتراضية لا نعيش اللحظة بل نصوِّرها، ولا نستمتع بما تحمله الذاكرة، بل حدود الذاكرة هو ما تقدِّمه لنا الشاشة، ففقدنا الكلمات، ونُمِّطت المشاعر والأحاسيس في “الاسمايلات” أو ما يُعرف “بالإيموجي”، وبذلك قُلِّصت الانفعالات البشرية.
إن مواقع التواصل بمثابة مساحة جديدة جُمِع فيها الرغبة والحلم والذاكرة؛ إننا نهرب إليها لنفهم من خلالها واقعنا، لا أن نهرب منها إلى واقعنا لنفهمه.
الفكرة من كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
يرفع هاتفه أمام وجهه.. يمد ذراعه.. يبتسم ويلتقط الصورة لنفسه، قد يبدو مشهدًا معروفًا ومفهومًا جدًّا في عصرنا الحديث، لكن دعنا نتوقَّف قليلًا ونتساءل: هل يبدو هذا التصرُّف طبيعيًّا؟ وهل الإنسانية الممتدة من خلال هذا المشهد ستكون طبيعية؟ وهل بالفعل سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي عملية التواصل بين البشر وجعلتهم أكثر قُربًا؟
قد يعتقد كثيرون أنه بالفعل قد أضافت مواقع التواصل الكثير من الفرص إلى الإنسان الحديث، لكن هناك جانبًا مُظلمًا، بل شديد الظلامية في هذه المواقع، إنها تخلق أشكالًا جديدة من الوهم والتضليل والتيه، إذ إن الصور التي تُلتقَط وتنتشر ما هي إلا محاكاة للكثير من التصوُّرات النفسية المشوَّهة التي تحتاج إلى تحليل وتفصيل.
قدَّمت لنا الكاتبة حقيقة الأزمة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، لنُدرك كيف أن الإنسان الحديث يعيش في سجن وهمي قد بناه بيده، بل وتحذِّرنا مما هو آت!
مؤلف كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
إلزا غودار: أستاذة الفلسفة ومحلِّلة نفسانية وكاتبة فرنسية من مواليد 1978م، تعمل باحثة جامعية في جامعة باريس كريتاي، كما أنها مديرة أبحاث التحليل النفسي في جامعة باريس، حاملة لدكتوراه في الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس التحليلي، وهي عضو الاتحاد الأوروبي للتحليل النفسي.
من مؤلفاتها:
Freud à la plage: La psychanalyse dans un transat (A la plag)
Ethique de la sincérité: Survivre à l’ère du mensonge (Hors Collection)
معلومات عن المترجم:
سعيد بنكراد: مفكر وباحث وأستاذ السيميائيات بكلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط بالمغرب، وهو المدير المسؤول لمجلة “علامات”، وهي مجلة متخصِّصة في الدراسات السيميائية، وله عدد من الأعمال منها: “وهَج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية”، و”بيرنار كاتولا: الإشهار والمجتمع”.