علمنة الترف
بظهور نظام الدولة ظهرت المجتمعات المقسَّمة إلى طبقات، فانتشرت بذلك اللامساواة وأصبح البعض أغنياء، بينما غالب الشعب من الفقراء، فساد الترف القائم على “منطق التكديس”، حيث كان الترف في تلك العصور الاستبدادية يأخذ شكل القصور الفخمة والتماثيل والمعابد، وبالتالي كان الترف ناتجًا عن الرغبة في “الخلود الأخروي”.
ومنذ عصر النهضة -كما يرى ليبوفتسكي- أصبح الترف جنبًا إلى جنب مع العمل الفني الشخصي وإبداع الجمال، فقد أراد النبلاء والأثرياء البرجوازيين أن يكونوا محاطين بالتحف الفنية، فشاعت ثقافة جمع التحف النادرة الثمينة كعلامة على الوجاهة والفخامة، وعلى عكس ما كان يتم في عصر المستبدِّين الذي تعلَّق فيه الفن بالخلود الأخروي، فإن الترف في عصر النهضة أخذ منحى البقاء الدنيوي، والأبدية في التاريخ، والمجد الذاتي، وبذلك تمَّت “علمنة الترف”، ونتج عن ذلك ظهور علاقة أكثر شخصية بين الإنسان والمنتجات باهظة الثمن، وأصبحت هناك علاقة حسية عاطفية بين الإنسان والأشياء الثمينة، فقد أصبحت الأشياء تقدَّم وتُحبُّ لذاتها ككائنات غالية، وليس فقط كرموز لوضع أو سلطة!
وبذلك شهدت الحضارة الغربية نوعين من الظواهر شكَّلا الترف المعاصر: (الآثار القديمة)، و(الموضة)، فآثار العصور الغابرة التي لم يكن لها قيمة ولا معنى، تحوَّلت إلى أشياء ثمينة وذات دلالة؛ وبدأ الأمر من إيطاليا، ومن ثمَّ انتشرت موضة جمع التحف في كل أوروبا، وبمرور الوقت أصبح جامعو التحف بالآلاف، وصارت النخبة الثرية تنفق ثروات هائلة لشراء النوادر العتيقة من تماثيل وغيرها؛ وبجانب الشغف بالقديم ظهرت الموضة بمعناها الحازم وعبادتها للزائل، بإضفائها الجمال على الملبس وأشكال الأجساد، ما يعني -حسب جيل- تجلِّيًا اجتماعيًّا جديدًا للتبذير التفاخري يرى النور تحت شعار “معاداة التقاليد والتحرر”، لقد كان الثوب التقليدي -قبل منتصف القرن الرابع عشر- طويلًا وواسعًا، يستر كامل الجسد، فلا يبدو الجسد معه أنه يتحرَّك، كان جديًّا ومهيبًا، فظهور الأثواب القصيرة المربوطة والضيقة التي تسمح برؤية جسم متقطِّع ومقسَّم قد أصبحت هي الموضة، مع عرض الجسد بصورة مفخَّمة، وتتلاعب بمفاتنه إما بتصغيرها أو تكبيرها!
كانت الموضة -كما يرى ليبوفتسكي- تحتاج إلى “تحرير الفردانية” لتظهر من خلال الاعتراف بحق أن يعرض الإنسان نفسه، وجعل النفس محط الأنظار، وأن يصير الإنسان فريدًا ومميزًا ومختلفًا عن غيره، فتوقَّف بذلك الترف عن كونه ميزة حصرية لحالة متعلقة بالولادة، وأضحى في متناول الجميع، وحظي بوضع مستقل متحرِّر من علاقته بالمقدس والخلود الأخروي وبالنظام الهرمي الوراثي، ليصير من أجل البقاء الدنيوي.
الفكرة من كتاب الترف الخالد.. من عصر المقدس إلى زمن الماركات
شهد الاقتصاد خلال الفترة الأخيرة توسعًا كبيرًا لسوق الترف، والذي قُدِّر عام 2000 بحوالي 90 مليار يورو، فبعد أن كانت المنتجات الفاخرة مقصورة سابقًا على الفئة البرجوازية رفيعة المقام، نزلت تدريجيًّا إلى الشارع، وأصبحت في متناول الجميع، وصار الهدف الرئيس للمجموعات الكبرى فتح الترف في وجه أكبر عدد ممكن من الناس، وتولَّدت علاقة بين الإنسان المعاصر والمنتجات الباهظة، وصارت الماركة على الملابس أهم من المنتج نفسه!
مؤلف كتاب الترف الخالد.. من عصر المقدس إلى زمن الماركات
جيل ليبوفتسكي ، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، وأفول الواجب”.
إلييت رو أستاذة بكلية IAE للأعمال في جامعة بول سيزان بفرنسا، وباحثة متخصِّصة في العلامات التجارية، لها أكثر من 60 مقالة علمية عن الثقافات والنجاح وإدارة العلامات التجارية الفاخرة.