أشكال الإذلال
أشكال الإذلال
هناك أربعة نماذج في العلاقات الدولية مفضية إلى الإذلال، النموذج الأول: “الإذلال بواسطة الانتقاص”، ويقضي هذا النموذج بفرض تحجيم متعسِّف على المهزوم يمسُّ بمكانته وقوته، تؤدي إلى صدمة داخل الرأي العام، بهدف إعطاء المهزوم حقيقة ذاتية، فتصير معها الهزيمة غير محتملة لمن يقعون ضحيتها، ما يعني خسارة قاسية لمكانة لا يمكن تحملها، ويفضي هذا الوضع غير المحتمل بأن يلجأ المهزوم إلى “الثأرية” بهدف استعادة المكانة، والحشد الممزوج بكره الآخر وبغضه، ومن هنا تكون المواجهة بين الطرف القوي الذي يحطُّ من قدر المهزوم، والطرف المهزوم الذي يسعى إلى إثبات الذات، وهذا ما حدث مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تصاعدت موجات التشنُّج حتى وصلت إلى مستويات قصوى من تمجيد العرق الألماني وتفوُّقه، وكذلك نظرية “الليبنسراوم” التي تعد واحدة من كبرى سياسات الإبادة الجماعية في عهد هتلر.
النموذج الثاني: “الإذلال عن طريق إنكار المساواة”، حيث يتم إذلال الآخر بأنه ليس ندًّا، لأنه يعتنق لغةً أو دينًا أو أيديولوجيا مختلفة، أو لكونه ينتمي إلى ثقافة وهوية مختلفة، فتلك الأمم البربرية والمتوحِّشة في نظرهم لا يمكن أن تحصل على مكانة مساوية أو تكون ندًّا لهم، بل لا يمكن أن تشارك في النظام العالمي أو تكون جزءًا من إدارته، فهذا الآخر لا يمكن تصوُّره إلا خاضعًا ذليلًا، وتحت الوصاية، وبالتالي عليه أن يتغيَّر ويتحوَّل ليمتثل إلى مقاييس الحضارة، وما دام هو دون المقاييس الحضارية، فلن يحصل البتة على المساواة في الحقوق، بل سوف توقَّع عليه العقوبات ليمتثل رغمًا عنه إلى تلك المقاييس، وهذا ما رأيناه فيما يتعلق بحرب “الأفيون”، فالغرب رأى أن الشعب الصيني مجرد شعب بربري وهمجي، وعلى حد وصف “ألغرنون سيدني” للآسيويين: بأنهم “شعوب جبناء ومخنثون”، وكذلك نظرة فرانكلين عن (هرمية الشعوب)، وأن هناك شعوبًا أرقي، وشعوبًا أدنى في المرتبة، وبالتالي لا يمكن أن تحصل الشعوب الدنيا على المساواة، ويتمتعوا بنفس الحقوق، وبناءً على ذلك اعتُبِر حرق الصين لصناديق الأفيون “مساسًا بالحرية” في نظر الغرب، ويتضمن رفض الاعتراف بالمساواة في الحقوق، ما يعني إذلال الصين.
الفكرة من كتاب زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية
يتكلم الكاتب عن باثولوجيا (أمراض) العلاقات الدولية التي تدفع نحو الإذلال؛ هذا الإذلال الذي يعرض المجتمعات إلى اضطرابات تؤدي إلى نزاعات اجتماعية شديدة في الحياة الدولية المعاصرة، فقد كان لتعدد الثقافات واختلافها ردة فعل طبيعية من جانب العولمة، فتم إقصاء ووصم جميع الثقافات المخالفة لها، ما خلق نوعًا من الإذلال الذي ضيَّق من إمكانية أن يحظى الآخر بموضع قدم في النظام العالمي، وظهرت مجموعة من النماذج في العلاقات الدولية هدفها الحط من مكانة الغير، وعدم الاعتراف بحقوقه، والتنكُّر لمبدأ المساواة، ما أدَّى إلى التنكُّر لاختلافه وتميزه، فباسم نظرية عالمية أصبحت الغيرية مرفوضة، ولا بد أن تخضع لمقاييس الأقوياء، ومن هنا يعد الإذلال عنصرًا أساسيًّا في بنية العلاقات الدولية، ما يعني أننا نعيش في زمن المذلولين.
مؤلف كتاب زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية
برتران بديع : هو أستاذ العلاقات الدولية في “معهد العلوم السياسية” في باريس، شغل منصب رئيس المجلس العلمي للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى بين عامي (2004 – 2012)، له العديد من المؤلفات، تم ترجمة معظمها، منها:
سوسيولوجيا الدولة.
الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام.
دبلوماسية التواطؤ.
الدبلوماسي والدخيل.
عجز القوة.
معلومات عن المترجم:
جان ماجد جبور: هو باحث ومترجم، يشغل منصب أستاذ في الجامعة اللبنانية، وله كتب من تأليفه، ومن بينها:
المنجد الفرنسي – العربي الكبير.
كما أن له عددًا من الكتب المترجمة، من بينها:
القيم إلى أين؟
الخوف من البرابرة.
اللقاء المعقد بين الغرب المتعدد والإسلام المتنوع.
الإسلام ولقاء الحضارات في القرون الوسطى.