العولمة والإذلال
العولمة والإذلال
تستهوي الإنسان دائمًا الحاجة إلى الحط من قدر الآخرين ليُرضي نفسه، ويشبع غروره، بل وانحرافه، وذلك من أجل إحكام السيطرة على الآخرين، وبالتالي فإن لعبة المنافسة والتفرد التي أرستها الحداثة قد ضاعفت من هذه الميول، ما شكَّل رابطًا يربط الحداثة بالإذلال، كما أنه مع بداية عصر العولمة ونهاية العزلات والحواجز المجتمعية، فقد أصبح الجميع في هذا العالم مرتبطًا بالجميع، سواء من حيث الثراء، أو الأمن أو حتى الألم والمشاعر، وقد شكَّل ذلك أرضية خصبة للإذلال ليعيش فيها ويترعرع!
فقد طرح دوركهايم -في زمانه- تساؤلًا حول أسس النظام الاجتماعي، والمفارقة التي يمكنها أن تجمع بين التعقيد والاندماج، فكيف يمكن للشخص أن يتمتع باستقلالية أكبر مرتبطة بالمجتمع؟ وفي الوقت نفسه أكثر فردية وتضامنًا مع الآخرين؟ فالفرد يثبت نفسه في الفضاء العالمي عن طريق انخراطه في الفضاء المعولم، بينما يثبت نفسه في الفضاء الدولي عن طريق ارتباط الدول في ما بينها، مع الحفاظ على سيادة كلٍّ منها وتأكيد تلك السيادة، وهذا ما تحاول أن تقوم به العولمة (التعقيد والاندماج) في عصرنا الحاضر، إلا أنه رغم تعولم الحيز المكاني، فإنه قد شكَّل لنا خليطًا أكثر تنافرًا، كما أن النزاعات رغم اتخاذها أشكالًا جديدة، فإنها ما زالت مستمرة ولم ينتهِ العنف، فهي تقوم بالتقسيم المجتمعي، فتجمع وتدمج وتميِّز، ونجدها تنادي بالمساواة في مبادئها فيما نجد أنها تهدمها في ممارساتها.
فيؤدي ذلك إلى وجود نتائج متعارضة توصل إلى ظهور باثولوجيا اجتماعية تنشأ عنها (اللامعيارية) التي تكرِّس لانعدام القواعد الاجتماعية المتعارف عليها، وبالتالي لظهور التوترات التي لا يستطيع المجتمع الدولي أن يقوم بتنظيمها ما يولِّد حالة من عدم الرضا، أو (التقيد بالمعيارية) من خلال الضغط للحفاظ على النظام بالقوة، ما يؤدي إلى الاستعمال المفرط للمعايير لفرض النظام الدولي بالقوة، وبناءً على ذلك فإن الحياة الدولية تقع رهينة الفوضى أو التسلط بالقوة! فالتقدم الهائل للعولمة قوبل على الجانب الآخر بسياسة ممنهجة لإنكار الآخر، ورفض الاعتراف بحقوقه والتنكُّر له، فيتضح بذلك أن العولمة تجتمع لديها كل مقومات الإذلال التي نراها في كل حدث من الأحداث الدولية.
الفكرة من كتاب زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية
يتكلم الكاتب عن باثولوجيا (أمراض) العلاقات الدولية التي تدفع نحو الإذلال؛ هذا الإذلال الذي يعرض المجتمعات إلى اضطرابات تؤدي إلى نزاعات اجتماعية شديدة في الحياة الدولية المعاصرة، فقد كان لتعدد الثقافات واختلافها ردة فعل طبيعية من جانب العولمة، فتم إقصاء ووصم جميع الثقافات المخالفة لها، ما خلق نوعًا من الإذلال الذي ضيَّق من إمكانية أن يحظى الآخر بموضع قدم في النظام العالمي، وظهرت مجموعة من النماذج في العلاقات الدولية هدفها الحط من مكانة الغير، وعدم الاعتراف بحقوقه، والتنكُّر لمبدأ المساواة، ما أدَّى إلى التنكُّر لاختلافه وتميزه، فباسم نظرية عالمية أصبحت الغيرية مرفوضة، ولا بد أن تخضع لمقاييس الأقوياء، ومن هنا يعد الإذلال عنصرًا أساسيًّا في بنية العلاقات الدولية، ما يعني أننا نعيش في زمن المذلولين.
مؤلف كتاب زمن المذلولين.. باثولوجيا العلاقات الدولية
برتران بديع : هو أستاذ العلاقات الدولية في “معهد العلوم السياسية” في باريس، شغل منصب رئيس المجلس العلمي للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى بين عامي (2004 – 2012)، له العديد من المؤلفات، تم ترجمة معظمها، منها:
سوسيولوجيا الدولة.
الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام.
دبلوماسية التواطؤ.
الدبلوماسي والدخيل.
عجز القوة.
معلومات عن المترجم:
جان ماجد جبور: هو باحث ومترجم، يشغل منصب أستاذ في الجامعة اللبنانية، وله كتب من تأليفه، ومن بينها:
المنجد الفرنسي – العربي الكبير.
كما أن له عددًا من الكتب المترجمة، من بينها:
القيم إلى أين؟
الخوف من البرابرة.
اللقاء المعقد بين الغرب المتعدد والإسلام المتنوع.
الإسلام ولقاء الحضارات في القرون الوسطى.