كيف يمكن للفكرة أن تترسَّخ وتثبت في النفس؟
كيف يمكن للفكرة أن تترسَّخ وتثبت في النفس؟
دائمًا ما يقال إن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فإن الأفكار تشكِّل سلوكنا سواء استطعنا أن نستحضرها، أو عجزنا عن ذلك ولم ندرك أنها تحرِّكنا، فتتجاوز بعض الأفكار مساحة الوعي لتنطبع في اللاوعي أو تنقش على الحجر، وليس العمر وحده هو ما يرسِّخ الأفكار، بل إن لتعلُّمها وتكرارها على النفس عرضًا وشرحًا، ولممارستها في الحياة العملية أثرًا في ذلك، ولعل حديث النبي: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا” بيانٌ لما يفعله التكرار من الغلق أو الفتح، وقد تنبَّه ابن خلدون في مقدمته لهذه الحقيقة فقال عن تعلم الشعر وإمكانية نسجه، بعد أن أكَّد أهمية الحفظ أولًا فقال: “وقد يقال إن من شرط نسج الشعر نسيان ذلك المحفوظ، لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادَّة عن استعمالها بعينها، فإذا نسيها، وقد تكيَّفت النفس بها، انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال”، وكالشعر نجد بقية العلوم، فبعد اكتساب المعرفة وضبطها، تأتي هذه المرحلة التالية، مرحلة الرسوخ والنسج على المنوال.
ومما يؤكِّده الكاتب أن تغيير الأفكار وتغيير ما بالنفس ممكن مهما كان عميقًا، حتى إنه ليذهب في الخروج من الحتمية التاريخية التي فرضها ابن خلدون للدولة قيامها وسقوطها، ففي البداية تكون شابة ثم يتحتَّم عليها أن تصل إلى مرحلة الهِرَم، بسبب العوائد الطبيعية التي لا بدَّ أن تحصل مع توالي الأجيال -المؤسس فالأبناء فالأحفاد- وكيف يدخل الترف باعتباره عائدًا أساسيًّا، فيقول إن الوعي بسنة التغيير هذه قد يعطي مساحة للخروج من الحتمية التي يفرضها القانون والحركة فيه بشكل لا يلغيه، ولكن القانون في ذاته لا يعطي استحالة مطلقة، فقانون الجاذبية لم يمنع الإنسان في النهاية من الطيران مثلًا، ويقول إن العوائد ليست طبيعية، بل فيها ما يمكن تعديله وتجاوزه.
إن المشكلة الحقيقية أن التغيير قد يكون بطيئًا على مستوى الأجيال، دقيقًا كالشعرة لا ينتبه له إلا الآحاد من الناس الذين وعوا السنن، ولا ينتبه السواد الأعظم للمشكلة إلى أن تظهر آثارها الكارثية الكبيرة، فيستيقظون حائرين تائهين يقولون: “أنى هذا”.
الفكرة من كتاب حتى يغيِّروا ما بأنفسهم
في هذا الكتاب يبحث الكاتب القانون الإلهي “حتى يغيروا ما بأنفسهم” الذي ورد في سورتي الأنفال والرعد، ويعمل فكره ليكشف لنا ماهية سنة التغيير، وهل هي سنة تخصُّ المسلمين فقط؟ وكيف نصل إلى التغيير الاجتماعي المطلوب؟ وكيف نتحرَّر من أوهام الأفكار التي صنعناها وجعلناها مقدَّسة؟
فكما يقول مالك بن نبي في تقديمه للكتاب: “إن الكاتب يحاول تخليص القارئ من الحتمية التي يقيِّدها به القانون”، فمثلًا الجاذبية الأرضية قانون حتمي، ولكن كيف طار الإنسان!
إن القانون لا يعني استحالة مطلقة ولكنه تحدٍّ بحاجة إلى استجابة، وهكذا التاريخ والمجتمعات وفعل التغيير فيها، ففكرة تغيير النفوس تجعلنا نتجاوز سببية وحتمية توينبي أو هرم الدولة عند ابن خلدون.
مؤلف كتاب حتى يغيِّروا ما بأنفسهم
جودت سعيد هو مفكِّر سوري من مواليد عام 1931م بقرية بئر عجلان في الجولان السورية، يعتبر امتدادًا لفكر مالك بن نبي ومحمد إقبال.
سافر إلى مصر ليتعلَّم بالأزهر الشريف أتمَّ الثانوية العامة هناك، ثم التحق بكلية اللغة العربية وتخرَّج فيها، والتقى مالك بن نبي في مصر وأعجب كثيرًا بأفكاره وتأثَّر بها.
يعدُّ جودت سعيد من دعاة اللاعنف في العالم الإسلامي، لدرجة أنه سُمِّي بغاندي العرب، يحاول أن ينطلق من القرآن في دراساته، ويدعو إلى إعمال العقل، وإلى بحث المشتركات الإنسانية.
من مؤلفاته: “مذهب ابن آدم الأول”، و”فقدان التوازن الاجتماعي”، و”حتى يغيِّروا ما بأنفسهم”، و”العمل قدرة وإرادة”، و”الإنسان حين يكون كلًّا وحين يكون عدلًا”، و”اقرأ باسم ربك الأكرم”، و”كن كابن آدم”، و”رياح التغيير”.