الألم والعذاب
الألم والعذاب
الألم ينتجُ عن تأثر عاطفي، وتُقاس حدَِّته بمقياس العذاب الذي يُصيب صاحبه، وكلما زاد الألم زاد العذاب، وزاد عجز صاحبه لكن قد يظل مُتحَكمًا به، وقد نمارس الرياضة القاسية فتصيبنا بالألم لكن يحتملها الفرد لأنها بإرادته أو بسبب حادث تعرَّض له قد يتحمَّلها ويحصرها بالعلاج الطبي، لكنه ما زال يشعر في كل الأحوال بالألم، ويأتي بلوغ الفرد مرحلة العذاب حين يتخطَّاه الألم ويُفقده قدرته على التحمُّل والمقاومة، والبعض لديه قدرة تحمل كبيرة على حبس العذاب مثل الفلاسفة الرُّواقيين الذين يقومون بالتخدير العضوي بما يمتلكه الشخص من روحانيات خاصة لكي يحصر العذاب ويحوِّله إلى ألم يحتمل العيش به.
على الرغم من أن شعور الألم موجع ويشوِّه ذات الفرد فإنه ليس مثل العذاب، فالعذاب مُحطِّم لذات الشخص فارضًا نفسه دون مقاومة لأن صاحبه بلا قوة، يتركه واهنًا مُفكَّكًا بأثر مرير في نفسه حتى لو تجاوز هذا العذاب، فعذاب الألم يوقف حياة الشخص ويجعله محطمًا داخليًّا قاطعًا كل أنشطته العائلية، وفاقدًا للثقة بنفسه وبالحياة وبمن حوله، وفي حداد دائم على حياته السابقة ويحيا على ذكراها، تجربة الألم التي تصل بالمرء إلى حياة مريرة مليئة بالعذاب المحتوم، فهي تجربة قاسية ولها آثار جسدية في الإنسان مثل العجز، والغثيان، وفقدان الشهية، وفقدان الاهتمام بالعالم، وقلة التركيز، والإصابة بالقلق واليأس، وقد يفقد معنى الحياة، وأيضًا يتخلَّى عن معتقداته الدينية، أو العكس تمامًا، فقد يزداد إيمانه باعتباره المنفذ الأخير له للتخلُّص من عذاب الألم.
تخوننا اللغة حين نريد التعبير عن كمِّ الألم بداخلنا فنبتكر لغةً جديدةً تصف العذاب الذي نحن فيه، ففي الألم يستكشف كل شخص ذاته لأنه ينزع الإنسان من ذاته المعتادة إلى ذات جديدة، وتعبِّر روني لوريش عن المتألمين وتقول: “كل شيء في الألم ذو طابع ذاتي، وما لم نختبره بعد لا يمكن لنا البتَّة تخيُّله، وما يقوله لنا عنه من يعانون الألم لا يتوجَّه إلا لمخيِّلتنا، إنهم لا يستعملون سوى صور مبتكرة كي يترجموا ما يحسُّون به”.
الفكرة من كتاب تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث
هذا الكتاب امتداد لكتاب أنثروبولوجيا الألم لمؤلفنا دافيد لوبروطون، ويعرض فيه الجانب الاجتماعي والثقافي للألم، وهنا يعرض لنا تجربة فريدة من نوعها في علم النفس، وهي تجربة الألم وكيفية التعايش معه والتعبير عنه وعلاقته بالعذاب واللذة عند الإنسان، وظهور فئة تستمد المتعة بالألم مثل حركة السادومازوشية وغيرها، فالألم هو شعور بشري يُصيب الإنسان لأسباب متعددة، منها الألم الجسدي مثل الصداع أو أوجاع مرض ما، والألم النفسي نتيجة فقد عزيز، أو بسبب خسارة ما أصابتك بألم الحزن، وهكذا، وهناك ألم بهدف اللذة، وهناك ارتباط بين الشعور بالألم والعذاب، فهو إحساس يصيب الجميع دون مفر، وقد يكون عابرًا أو مُلازمًا للشخص، وهو ضريبة ملازمة للوجود الإنساني والجسدي للبشر.
مؤلف كتاب تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث
دافيد لوبروطون: أنثروبولوجي وعالم اجتماع فرنسي، أستاذ بجامعة ستراسبورغ، وعضو في المعهد الجامعي الفرنسي، وباحث في مختبر الديناميات الأوروبي، وهو متخصِّص في تمثيل الجسم البشري ووضعه في الاعتبار، وقد درسه بشكل خاص من خلال تحليل السلوك المحفوف بالمخاطر، وله أبحاث مهمة في حقل العلوم الاجتماعية المعاصرة، وله اهتمامات جانبية نادرة، من بينها بحثه في كتابنا هذا “تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث”.
وله عدة كتب منها: “الصمت لغة المعنى والوجود”، و”أنثروبولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسية”، و”أنثروبولوجيا الألم”، و”سوسيولوجيا الجسد”، و”أنثروبولوجيا الجسد والحداثة”، وغيرها.
معلومات عن المُترجم:
فريد الزاهي: كاتب ومترجم وناقد فني مغربي، حصل على شهادة الإجازة في الفلسفة وعلم النفس، ثم على شهادة الدراسات المعمَّقة في الأدب المقارن، كما حاز دكتوراه السلك الثالث في الدراسات والحضارات الإسلامية من السوربون.
وله عدة مؤلفات منها: “الجسد والصورة والمقدس في الإسلام”، و”العين والمرآة”، وغيرهما، كما له عدة ترجمات، ومنها: “الصمت – لغة المعنى والوجود”، لدافيد لوبروتون”، و”كيف نحلم؟”، لإيزابيل أرنواف”، و”السحر والدين في أفريقيا الشمالية”، لإدمون دوطي، و”هل يمكن تعديل الدماغ؟” لكريستيان مارينداز، وغيرها.