الإبداع وضغوط الحياة
الإبداع وضغوط الحياة
يعدُّ الضغط النفسي نتيجة لتغيير خارجي أو داخلي ينشأ عنه استجابة انفعالية حادة، وكثير من الناس يخلط بينه وبين القلق المرضي؛ والضغوط النفسية لا تعدو مجرد أحداث عادية تحفز للإنجاز والعمل ومقبولة صحيًّا ما دامت في حدودها المعهودة، وعلى الإنسان التكيف معها لا مقاومتها؛ فالضغط وقود الحماس، ولكنه وإن لم يكن مرضًا فهو يحفز للإصابة بكثير من الأمراض النفسية والعضوية معًا، فالمبدعون معرضون للضغط من مصادر متنوعة أكثر من غيرهم، بسبب ما يتحملونه من أعباء المسؤولية والشهرة، وما يواجهونه أحيانًا من الرفض الاجتماعي والنقد وصراع الأدوار والأحقاد.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد أصيب برتراند راسل باضطرابات نفسية بسبب أحداث مريرة ألمت به خلال حقبة من حياته تعرض فيها للهجوم اللاذع بسبب زيجاته المتعددة وتوتر العلاقة مع أبنائه، واهتزاز سمعته العلمية جراء تعرض كتاباته الفلسفية للنقد، وأدت آراؤه المتحررة إلى فشل الحصول على وظيفة أكاديمية، وكانت هذه المرحلة أقل أطوار حياته خصوبة، وعانى نجيب محفوظ فترة مشحونة انفعاليًّا جرَّاء هجوم الناصريين بعد رواية “الكرنك” انتهت بمشكلات صحية في القلب، وأُصيب نيوتن بعد إنهاء كتاب “المبادئ” بانهيار عصبي جعله يكتب رسائل غاضبة لأصدقائه ثم لا يلبث أن يعتذر عنها!
وكشفت النتائج أن لاعبي الشطرنج الذين ليس لهم مهنة غير الشطرنج يعانون الضغوط والآلام النفسية والبدنية أكثر من اللاعبين الذين يملكون وظيفة إضافية، وفي حياة القادة السياسيين مظاهر كثيرة للضغط الشهرة والمسؤوليات، فقد أُصيب جون كينيدي بداء “أديسون” الذي يتطلب علاجه الكورتيزون المنبه للتوتر والضغط، وخلَّفت فضيحة “ووترجيت” تشوُّهات نفسية بالغة في حياة الرئيس نيكسون، وعانى جورج بوش الأب اضطرابات سيكوفسيولوجية، حتى إنه تقيئ مرة على رئيس الوزراء الياباني، وخلاصة القول إن تبعات الإبداع تزيد الضغط النفسي الذي يسهم في الأمراض النفسية أو يُنظر له على أنه مرض نفسي.
الفكرة من كتاب الحكمة الضائعة
ما زلنا نقرأ في سِيَر المشاهير من المبدعين والعباقرة في مختلف المجالات ما اعترض حياتهم من مس الجنون والأمراض النفسية والاضطرابات الوجدانية والسلوكية؛ فقد حكى العقاد معاناته النفسية التي مر بها خلال شبابه، وروى أنيس منصور محاولة انتحاره، وعانى الشاعر عبد الرحمن شكري الاضطرابات الوجدانية حتى رُمى بالجنون، وقضت مي زيادة حياتها الأخيرة في مشفى العصفورية للأمراض النفسية.
وخارج حدود الوطن العربي الأمر أوضح؛ فقد كان سلوك كلينتون تجسيدًا لمرض انفصام الشخصية، وضَرَب الاكتئاب والاضطراب النفسي عددًا من مشاهير الأدب والسياسة أمثال أبراهام لينكولن وتشرشل وثيودور روزلفت وكافكا وڤان جوخ، وختم نيتشه حياته بالجنون، كما أنهت فيرجينيا وولف حياتها بالانتحار.
فهل هناك صلة حقيقية بين الإبداع والمرض النفسي؟ أم أن الإبداع نفسه هو شكل من أشكال الجنون كما يزعم بعض أتباع المدرسة الفرويدية؟ أم ربما لكاتبنا رأي آخر يدحض كل هذا بناء على براهين علمية ودراسات مثبتة؟
مؤلف كتاب الحكمة الضائعة
د. عبد الستار إبراهيم: كاتب وأستاذ علم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الملك فيصل، واستشاري الصحة النفسية بمستشفى الملك فهد، وعضو في جمعية الصحة العقلية التابعة لمنظمة الصحة الدولية وجمعية الصحة النفسية الأمريكية.
مُنح الكثير من الجوائز لإسهاماته العلمية الرفيعة، ونشر نحو مئة من الأبحاث والمقالات في مجلات علمية مختلفة، وللكاتب مؤلفات قيمة، أبرزها:
أسس علم النفس.
الإنسان وعلم النفس.
القلق قيود من الوهم.