التراث والحضارة بين التجديد والتبديد
التراث والحضارة بين التجديد والتبديد
يعدُّ مفهوم التراث من خصائص الإنسان الأساسية التي يتميَّز بها عن بقية المخلوقات كالحيوانات، فهو أمر مكتسب وليس ناشئًا في فطريته، وهو ليس له أي صلة بغرائزه، فهو أمر يكتسبه الإنسان عن طريق التعلم، ويعتمد فيه على ما لديه من حصيلة لغوية، وعلى أنه كائن اجتماعي مشارك مع الغير ومكتسب، فالتراث الحضاري هو الشيء الوحيد الذي يظهر مدى تقدم الإنسان وتكيفه مع البيئة، ففي كل الحالات لا يمكن إنكار أنه قد ميزه الله بعقل سليم عن باقي المخلوقات الأخرى، وبذلك يكون من الصعب فصل الإنسان عن ماضيه الثقافي ورقيِّه الحضاري والديني والاجتماعي، ولعلَّ الإنسان المسلم أقرب وأشد ارتباطًا بالتراث، ولكن هذا لا يُعنى بما فيه من جوانب إيجابية أو سلبية، فحتى لا يتحول التراث إلى قيد يشلُّ حركة الفكر ويُجمِّد التقدُّم الإنساني، فالماضي بمثابة المؤشر وبُوصلة الوصول للمفكر.
الإنسان يتعلم حقًّا من تراثه لكي تتكوَّن عنده ملكة التكيف والتأقلم والاستقلالية، فأي إنسان يقدر على تمام الطريق دون معرفة الهوية الحقيقية له، وبهذا يكون التراث هو الهوية العربية والإسلامية، فبه يمكن أن نستعيد للأمة العربية شخصيتها الاستقلالية في نظرتها إلى الأمور وإلى الحياة بوجه عام دون الخلط بينها وبين الفكر الغربي، وهي بذلك لا مفر لها من ماضيها وتراثها لأجل بناء حاضرها، فهي تبحث فيه عن أسباب التقدم لِتتقدَّم، وعناصر الاستقلال لتكون لها شخصيتها المستقلة، لكن هذا كله لا يمكن أن يحدث دون مراعاة لمتغيرات العصر وما يستجد فيه من تطورات إيجابية في جميع المجالات، وأعتقد أننا نملك الحرية في الاستفادة من إيجابيات الحضارة الغربية، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالعناصر الأساسية في تراثنا، فَالتراث ميراث يحتاج إلى عاقل سليم العقيدة ليعيد بناءه.
الفكرة من كتاب مقالات في التجديد
كثيرًا ما نسمع الأصوات التي تنادي وتناشد دائمًا بالتجديد الفكري، وأحيانًا بإلغاء الخطاب الديني والتخلُّص من جمود النصوص، فهم يرون أن الخطاب الديني هو أزمة الفكر، أو أنه سبب أزمة تخلُّف المسلمين في الحضارات العربية، وأنه ليس هناك حل لتلك الأزمة إلا بهدمها، وهؤلاء المدَّعون بعلو الثقافة لا يفصحون عن مقتضى هذه الدعوة، أو ما هو اللزوم المنطقي الصحيح لبناء هذه الحجة، سوى غرض واحد فقط هو دائمًا إظهار أن الأزهر ليس سوى متحف تاريخي للعرض، وهدم كل تجلياته العلمية والروحية والثقافية.
مؤلف كتاب مقالات في التجديد
الإمام الأكبر أحمد محمد أحمد الطيب: الرئيس السابق لجامعة الأزهر، ورئيس مجلس حكماء المسلمين، وهو أستاذ العقيدة والفلسفة، ويتحدث اللغتين الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، وقد قام بترجمة كتب كثيرة من المراجع الفرنسية إلى العربية، ولديه مؤلفات عديدة في الفقه والشريعة والتصوف، ومن أشهر مؤلفاته: “الجانب النقدي في فلسفة أبي بكر البغدادي”، و”أصول نظرية العلم عند الأشعري”.