التنافس الطبقي وتعظيم الفردانية
التنافس الطبقي وتعظيم الفردانية
ذهب العديد من الباحثين إلى أن تفسير ظهور الموضة يكمن في التنافس بين طبقات المجتمع، فالطبقات الفقيرة تقوم بتقليد الطبقات الأغنى والراقية في طريقة الملبس، وكذلك في الطريقة التي يظهرون بها، ونتيجة لهذا التطلع نحو التشبُّه بالطبقات الأعلى ومحاكاتها من جانب الطبقات الفقيرة فإن الطبقات الراقية كانت مجبرة على قبول الابتكارات والتغيير المستمر الذي تفرضه الموضة لكي تحافظ على الفروق الطبقية والاجتماعية، فبسبب “الحركة المزدوجة للمحاكاة ولدت الموضة”، فالطبقات العليا تقوم بالاستهلاك الاستعراضي القائم على التفاخر والتباهي بتميُّزها ومكانتها أعلى سُلم المجتمع، ومن أجل جذب عيون الآخرين وعلامات التقدير والاحترام، والدافع من وراء ذلك الطبيعة البشرية التي تقوم على التنافس وحب الذات الذي يحملهم عليها الرغبة الشديدة في المقارنة والظهور بمظهر المنتصر.
وبالتالي فإن الطبقات العليا لكي تحتفظ بمكانتها التي تحوز من خلالها على الشرف والنفوذ وجب عليها أن تستهلك وتصرف ببذخ لتُظهر علامات الرفاهية والثراء، ومن هنا أصبحت الموضة -في رأي فيبلن- “لازمة” ووسيلة للحصول على التشريف الاجتماعي والحفاظ على المكانة الاجتماعية، فالموضة كانت نتيجة طبيعية نابعة من الاستهلاك التفاخري من جانب الطبقات العليا كوسيلة الغرض منها التصنيف الطبقي بغض النظر عن أي غاية جمالية من ورائها.
ورغم واقعية ما ذهب إليه هؤلاء الباحثون فإنها تظلُّ نظرة قاصرة وجزئية لا تفسِّر ظهور الموضة بشكل كامل وكُلي لأن ديناميكية الموضة وحركتها المستمرة وشطحاتها لا يمكن حصرها تحت بند التنافس الاجتماعي الطبقي بين الطبقات الفقيرة والطبقات الراقية لأن هناك الكثير من صيحات الموضة تنتهي بسرعة قبل أن يتم تقليدها ومحاكاتها من الطبقات الفقيرة.
وبالتالي فإن الوعي بأن نكون أفرادًا ذوي قدر خاص والرغبة في التعبير عن هوية متفردة، والاحتفاء بالهوية الشخصية أدَّى إلى الطيش وشلَّالات التغيير وعدم الاكتفاء بالأناقة الفخمة، ما أوجب ظهور ثورة في تمثيل الأشخاص والشعور بالذات، وقد أدَّى ذلك إلى زعزعة قواعد التفكير العقلاني والقيم التقليدية، وبالتالي أوجب ذلك التحرر عدم الاعتراف بتفرُّد البشر بشكل عام وقام بإعلاء الاختلاف الفردي الخاص، فالموضة بذلك تعد تعبيرًا عن التفرُّد الفردي وتمجيدًا للفردانية وتعظيمها، وبالتالي ظهرت الأزياء التي تظهر مفاتن الجسد كدليل على سحر الأجساد والإيغال في فردانيتها.
الفكرة من كتاب مملكة الموضة زوال متجدِّد.. الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية
ظلَّت الموضة خلال مراحل التاريخ المختلفة تابعة للعادات ولا تخرج عليها، وبالتالي بقيت الأزياء في الحضارات المختلفة في حالة استقرار لا يأتي عليها جديد، إلى أن جاءت المدنية الغربية وعصر الحداثة لتنقلب الموضة على كل ما هو قديم منكرة للماضي ومتمرِّدة على التقاليد في مقابل احتفاءها بالحاضر، ومن هنا يبحث المؤلف من خلال كتابه هذا نشأة الموضة كونها ظاهرة قصيرة الأجل ومتناقضة، إلى جانب بحثه في أسباب هذا السيل الجارف من الأزياء وانتشار الملابس الرياضية وثقافة الجينز في سياق فكري وفلسفي.
مؤلف كتاب مملكة الموضة زوال متجدِّد.. الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية
جيل ليبوفتسكي ، هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، اشتهر بنقده للحداثة وما بعد الحداثة، وله العديد من المؤلفات في ذلك، ومنها: “المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”عصر الفراغ.. الفردانية المعاصرة وتحوُّلات ما بعد الحداثة”.
معلومات عن المترجمة:
دينا مندور، مترجمة وباحثة مصرية، حاصلة على درجة الماجستير في “إشكاليات الترجمة” من جامعة إكس مارسيليا في فرنسا، كما أنها عضو لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، لها العديد من الترجمات، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، وغيرهما.