مقلدو الحداثة وروحانيات التزكية
مقلدو الحداثة وروحانيات التزكية
ذهب مقلدو مفكري الحداثة إلى الطعن في روحانيات التزكية النابعة من الدين، زاعمين أنها روحانيات بالية تورِّث ترك العمل كما أنها طقوس مجردة، وهذا بهتان عظيم، حيث إن روحانيات التزكية قيم مبنية على الفطرة، ومقرَّرة من قبل الدين الخاتم الذي جاء متمِّمًا للقيم السابقة وشاهدًا عليها، فتلك الروحانيات تتضمَّن قيمًا عمودية تعرِّج به إلى السماء فتوصله بالخالق (عز وجل) ، وقيمًا أفقية تجعله في تواصل مع جميع المخلوقات والموجودات.
كما أن روحانيات التزكية تدفع نحو نوعين من العمل -على عكس زعم مقلدي مفكري الحداثة- عمل الخارج الخاص بالجوارح لتدبير الحياة المادية، وعمل الداخل الخاص بالجوانح لتدبير الحياة المعنوية وإصلاح النفس، وعمل الداخل أعظم أثرًا إذ يتبعه عمل الخارج، بينما عمل الخارج لا يستتبع أن يكون عمل الداخل مطابقًا له.
وأما عن وصفهم للعبادات والشعائر والمناسك الدينية بأنها (طقوس مجردة)، فإنه راجع إلى التقليد الأعمى الذي لا يحيد قيد أنملة عن مفكري الحداثة، حيث استبدلوا المصطلحات الشرعية الراسخة (العبادات، والشعائر، والمناسك) التي تتعلق بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان وبالتالي دخولها في تعريف ماهية الإنسان بلفظ (الطقوس)، فاختزلوا تلك الأعمال في المعاني الشكلية والاحتفالية؛ فدفعهم ذلك الاختزال إلى القول إنها فارغة من أي مضمون.
وفي الحقيقة فإن روحانياتهم المزعومة هي التي ينطبق عليها لفظ طقوس، حيث لا تعدو أن تكون روحانيات من جنس المستهلكات، فلا قدرة لها على كبح جماح الاستهلاكيات الحديثة، ولا إشباع حاجاتهم المعنوية والروحية على العكس من روحانيات التزكية الدينية التي تشبع حاجات الإنسان المعنوية، كما تصلح النفس وتضبطها.
الفكرة من كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
قامت الحداثة منذ نشأتها على “فصل المتصل”، ونصطلح على أن نسميه (الدنيانية)، ومن صورها، (العَلمانية) وهدفها فصل السياسة عن الدين، و(العِلموية) وهدفها فصل العِلم عن الدين، و(الدهرانية) وهدفها فصل الأخلاق عن الدين، وكذا فصلت الدنيانية الفن والقانون وكل شيء عن الدين، وهدف هذا الفصل (الدنياني) صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأبلغ تلك الفصول أثرًا وأشدها خطرًا هو (فصل الأخلاق عن الدين)، لتعلُّق الأخلاق بالإيمان، فضلًا عن صلة الإيمان بالدين.
وقد وضع الدهرانيون أربع صيغ للفصل بين الأخلاق والدين، يريدون من خلالها أن يجرِّدوا الأخلاق من لباسها الروحي، حتى يلبسوها لباسًا زمنيًّا دنيانيًّا بلا روح؛ فدعوى فصل الأخلاق عن الدين، دعوى باطلة، حيث تبطل تصوُّرات الدهرانيين عن الأخلاق والدين، حيث لا أخلاق بلا دين، كما لا روحانيات من خارج الدين، ومن ثمَّ لا بد من وصل ما فصله الدهرانيون، حتى نعيد إلى الأخلاق لبسها الروحي من جديد.
مؤلف كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
طه عبد الرحمن: كاتب متخصِّص في علم المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين منذ سبعينيات القرن الماضي، كتب العديد من الكتب التي يؤسِّس من خلالها فلسفة إسلامية جديدة، ومن تلك الكتب: “العمل الديني وتجديد العقل”، و”روح الحداثة”، و”سؤال الأخلاق”، و”سؤال العنف”، و”ثغور المرابطة”، و”ما بعد الدهرانية”.