بؤس مقلدي مفكري الحداثة
بؤس مقلدي مفكري الحداثة
عكف مقلدو الحداثة من بني جلدتنا ردحًا من الزمن -وإلى الآن- يرددون ما نقلوه عن مفكري الحداثة الغربيين داعين إلى الفصل بين السياسة والدين؛ وقد شرعوا من جديد يقلدون مفكري الحداثة داعين إلى فصل آخر أشد خطرًا وأبلغ أثرًا من سابقه، وهو الفصل بين الأخلاق والدين، بدعوى انحصار الأخلاق في التعامل بين الأفراد، متجاهلين أن تعامل الإنسان يتعدَّى تعامله مع الأفراد إلى تعامله مع جميع المخلوقات والموجودات، بالإضافة إلى تعامله مع الخالق (عز وجل)، فلو أدرك مقلدو مفكري الحداثة ذلك، لتبيَّنوا كيف أن ذلك كان ليساعدهم على مواجهة التحديات الأخلاقية ووضع حلول لأزمة القيم التي عمَّت مجال الاقتصاد، استهلاكًا، ومجال البيئة، تلوثًا، ومجال الإعلام، خدشًا للحياء، ومجال الوراثة، هتكًا للحياة.
ولم يتوقَّف مقلدو مفكري الحداثة عند هذا الحد، بل ذهبوا إلى فصل الروحانيات عن الدين، زاعمين أنها مستقلة عنه، معتقدين أنه يمكن أن يحصل الإنسان على الروحانيات من دون الدين، بداعي أن الأديان متساوية فيما بينها، إلى جانب عدم معقوليتها، وهذا الادعاء الدهراني باطل لأن الأديان لا تتطابق فيما بينها، كما أنها تتفاوت من حيث معقوليتها، إذ لا يتساوى البتة دين ملفَّق مع دين منزَّل محفوظ، كما لا يتساوى دين التوحيد مع آخر يعدِّد الآلهة، وفي الحقيقة لا توجد روحانيات خارج الدين، حيث إن الدين هو أصل ومنبع الروحانيات، ومن يطلب الروحانيات فعليه أداء الشعائر والعبادات والمناسك الدينية ليحصل عليها، كما لا بد أن يطلب تلك الروحانيات من الدين الحق الذي يقر بالوحدانية التي تقربه من الإله، لا من أي دين غيره.
الفكرة من كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
قامت الحداثة منذ نشأتها على “فصل المتصل”، ونصطلح على أن نسميه (الدنيانية)، ومن صورها، (العَلمانية) وهدفها فصل السياسة عن الدين، و(العِلموية) وهدفها فصل العِلم عن الدين، و(الدهرانية) وهدفها فصل الأخلاق عن الدين، وكذا فصلت الدنيانية الفن والقانون وكل شيء عن الدين، وهدف هذا الفصل (الدنياني) صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأبلغ تلك الفصول أثرًا وأشدها خطرًا هو (فصل الأخلاق عن الدين)، لتعلُّق الأخلاق بالإيمان، فضلًا عن صلة الإيمان بالدين.
وقد وضع الدهرانيون أربع صيغ للفصل بين الأخلاق والدين، يريدون من خلالها أن يجرِّدوا الأخلاق من لباسها الروحي، حتى يلبسوها لباسًا زمنيًّا دنيانيًّا بلا روح؛ فدعوى فصل الأخلاق عن الدين، دعوى باطلة، حيث تبطل تصوُّرات الدهرانيين عن الأخلاق والدين، حيث لا أخلاق بلا دين، كما لا روحانيات من خارج الدين، ومن ثمَّ لا بد من وصل ما فصله الدهرانيون، حتى نعيد إلى الأخلاق لبسها الروحي من جديد.
مؤلف كتاب بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين
طه عبد الرحمن: كاتب متخصِّص في علم المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين منذ سبعينيات القرن الماضي، كتب العديد من الكتب التي يؤسِّس من خلالها فلسفة إسلامية جديدة، ومن تلك الكتب: “العمل الديني وتجديد العقل”، و”روح الحداثة”، و”سؤال الأخلاق”، و”سؤال العنف”، و”ثغور المرابطة”، و”ما بعد الدهرانية”.