الغربان من منظور حديث
الغربان من منظور حديث
ربما لا يمكن تأريخ بداية الحداثة بشكل دقيق على حد تعبير الكاتب، فهي نتاج ثورات وتغيرات على مدار فترات طويلة، لكن عند الحديث عن تاريخ الغربان الحديث فيمكننا اعتبار حريق لندن الكبير في عام 1966م بداية انهيار ما تم توارثه عن الغربان من تبجيل وبخاصةٍ في إنجلترا، فقد نشب حريق في مخبز يقع بالقرب من جسر لندن، واستمر قرابة الأسبوع مدمرًا بذلك ما يتجاوز ثلاثة عشر ألف منزل بحيث لم تستطع الحكومة السيطرة على الخراب الحادث ودفن جثث الضحايا، نتج عن هذا وصول أسراب وأسراب من الغربان إلى لندن لتنهش أجساد الجثث الملقاة وتقتات عليها وتتكاثر في المنطقة، ما أثار حفيظة الأهالي والسكان مطالبين الحكومة بإبادتها، وهو ما حدث إلى أن تذكر الملك تشارلز الثاني الأسطورة التي تنصُّ على أن الغربان في برج لندن تحمي مملكته، فأمر بالسيطرة على الغربان المحلية دون الغربان البرية، وتم ذلك عن طريق شخص يدعى “سيد الغربان الجليل”.
يذكر أن للغربان دورًا في منع تفشي الطاعون الدبلي، ولكن عداء الناس تجاهها قد زاد وارتبطت في أذهانهم بالخيانة أو بكونها كائنات متحدية للسيادة البشرية وبخاصةٍ في بريطانيا، ومن ثم انتشرت رياضة صيد الغربان وبخاصةٍ في الريف الأمريكي، حيث كرهها المزارعون وأعدوا جوائز لقاتليها رغم أنها تقتات على الحشرات والحبوب أكثر من النبات، ولولا ذكاؤها لكانت تعرَّضت للانقراض، وقد نتج عن غياب الغربان في تلك الفترة انتشار آفات المحاصيل.
الفكرة من كتاب الغراب.. التاريخ الطبيعي والثقافي
اختلف الواصفون من شعراء وعلماء وكهنة ورسامين في توصيف الغراب، أي أن كل اتجاه يميل إلى إظهار جانب مختلف من جوانب هذا الطائر العتيق، فالعالِم يراه بنظرة تشريحية تدرس وظائفه الحيوية وخصائصه التصنيفية التي تضعه في سلالات ومسميات تحدد رتبته ضمن باقي الكائنات الحية، والفنان يهتم برسم لوحات تبين الثنيات والألوان بتفاصيل جمالية، فضلًا عن تضمينه في كثير من الأمثال الشعبية ذات الدلالات والحكم المتوارثة جيلًا بعد جيل.
أما العوام من الناس فتروج بينهم النظرة التشاؤمية المرهونة برؤية هذا الطائر، وهكذا فإن الأساطير المحكية والتقاليد والتاريخ وحتى القصص الدينية المتواترة والكتب المقدسة جميعها تحوي حديثًا متنوعًا عن الغربان، ويختلف كل منهم في ذكر صفاته ووصف وجه مميز يغيب في منظور الوصف الآخر، لكنهم يجتمعون معًا لخلق صورة واحدة تنتهي برسم لوحة متكاملة عن الكائن الغامض ذي الريش الأسود والمنقار المدبَّب.
ومن هنا يهدف هذا الكتاب إلى الحديث عن سلوكه الحيواني وتوضيح ما له في التاريخ الطبيعي والثقافي من جميع الاتجاهات كالشعر والأدب والفنون، حتى يتيح لنا الإلمام بكل ما لهذا المخلوق من حديث يعيننا على فهم ما يدور حوله من ألغاز علمية، إضافةً إلى إدراك ما يمثله في الثقافات المختلفة، ويعد أرسطو أول المتحدثين عن الحيوان بشكل علمي، وذلك في كتابه “تاريخ الحيوان”، الذي تحدث فيه عن الغربان واصفًا أشكالها وخصائصها، وقد ذكر في مدة رعايتها واهتمامها بأبنائها أنها طويلة مقارنةً مع باقي الطيور.
مؤلف كتاب الغراب.. التاريخ الطبيعي والثقافي
الدكتور بوريا ساكس Boria Sax كاتب أمريكي من مواليد المملكة المتحدة في عام 1949، حاصل على الدكتوراه في التاريخ الألماني والفكري من جامعة ولاية نيويورك في بوفالو، ومحاضر الأدب في كلية ميرسي في دوبوس فيري بنيويورك، وله العديد من الكتب التي تبحث تداخل علم الحيوان بأساطير الشعوب القديمة، نذكر من تلك المؤلفات: “حديقة الحيوان الأسطورية”، و”الثعبان والبجعة”، إضافة إلى كتب أخرى مثل: “التراث الرومانسي للماركسية”.