منظور شعبي
منظور شعبي
ليستطيع المرء فهم الأساطير والحديث عنها يجب أن يتغافل عن جزء من العلم وحتى عن الصفات الشكلية التي تصنِّف الكائنات تصنيفًا صحيحًا، فكثيرًا ما اختلط الغراب عند الشعراء بطيور أخرى تشترك معه في الريش الأسود.
في أوروبا وآسيا لم يكن شائعًا استخدام الغراب في الأساطير والخرافات المحكية، فانتشر عوضًا عن ذلك استخدام حيوانات غريبة أو خيالية كالتنين وأحادي القرن، لكنه عُدَّ نذيرًا بالموت، وفي بعض الأساطير الألمانية ارتبط الغراب بالفساد والتدمير حين ذُكر استخدامه في سرقة المجوهرات، أما الفراعنة فاعتبروا الغربان رمزًا للتناغم العائلي والحب المخلص، وعدَّته بعض قبائل الهنود الحمر رمزًا للاحتضان والتربية، وفي حضارات روما واليونان فقد ارتبط بطول العمر وبالنبوءات، حيث اعتبر فألًا حسنًا استخدام غرابين كرمز للزواج الميمون والإخلاص بين الزوجين في حفلات الزفاف الأثينية، أما وجود غراب واحد في الحفل فهو نذير شؤم بموت أحد العروسين، والأمر نفسه عند الفايكينج حيث عُدَّ نذير شؤم يوحي نعيقه بموت أو خسارة، وكذلك في الثقافات الممتدة من الصين إلى سهول الهند اعتاد الناس ربطه بالنبوءات، ومن هنا شاعت فكرة ربط عدد الغربان المحلقة بالقدر في كثير من الأشعار في بريطانيا وأمريكا باختلاف مدلول كل رقم من دولة إلى أخرى، وفي العصور الوسطى ربطه المحاربون بالموت اعتبارًا منهم أن مصير جثثهم أن تأكلها الغربان، وتلك فكرة بدائية ترعب الناس منذ زمن لأنها إشارة إلى النفي مثل المجرمين.
الفكرة من كتاب الغراب.. التاريخ الطبيعي والثقافي
اختلف الواصفون من شعراء وعلماء وكهنة ورسامين في توصيف الغراب، أي أن كل اتجاه يميل إلى إظهار جانب مختلف من جوانب هذا الطائر العتيق، فالعالِم يراه بنظرة تشريحية تدرس وظائفه الحيوية وخصائصه التصنيفية التي تضعه في سلالات ومسميات تحدد رتبته ضمن باقي الكائنات الحية، والفنان يهتم برسم لوحات تبين الثنيات والألوان بتفاصيل جمالية، فضلًا عن تضمينه في كثير من الأمثال الشعبية ذات الدلالات والحكم المتوارثة جيلًا بعد جيل.
أما العوام من الناس فتروج بينهم النظرة التشاؤمية المرهونة برؤية هذا الطائر، وهكذا فإن الأساطير المحكية والتقاليد والتاريخ وحتى القصص الدينية المتواترة والكتب المقدسة جميعها تحوي حديثًا متنوعًا عن الغربان، ويختلف كل منهم في ذكر صفاته ووصف وجه مميز يغيب في منظور الوصف الآخر، لكنهم يجتمعون معًا لخلق صورة واحدة تنتهي برسم لوحة متكاملة عن الكائن الغامض ذي الريش الأسود والمنقار المدبَّب.
ومن هنا يهدف هذا الكتاب إلى الحديث عن سلوكه الحيواني وتوضيح ما له في التاريخ الطبيعي والثقافي من جميع الاتجاهات كالشعر والأدب والفنون، حتى يتيح لنا الإلمام بكل ما لهذا المخلوق من حديث يعيننا على فهم ما يدور حوله من ألغاز علمية، إضافةً إلى إدراك ما يمثله في الثقافات المختلفة، ويعد أرسطو أول المتحدثين عن الحيوان بشكل علمي، وذلك في كتابه “تاريخ الحيوان”، الذي تحدث فيه عن الغربان واصفًا أشكالها وخصائصها، وقد ذكر في مدة رعايتها واهتمامها بأبنائها أنها طويلة مقارنةً مع باقي الطيور.
مؤلف كتاب الغراب.. التاريخ الطبيعي والثقافي
الدكتور بوريا ساكس Boria Sax كاتب أمريكي من مواليد المملكة المتحدة في عام 1949، حاصل على الدكتوراه في التاريخ الألماني والفكري من جامعة ولاية نيويورك في بوفالو، ومحاضر الأدب في كلية ميرسي في دوبوس فيري بنيويورك، وله العديد من الكتب التي تبحث تداخل علم الحيوان بأساطير الشعوب القديمة، نذكر من تلك المؤلفات: “حديقة الحيوان الأسطورية”، و”الثعبان والبجعة”، إضافة إلى كتب أخرى مثل: “التراث الرومانسي للماركسية”.