دلالات الذكاء
دلالات الذكاء
يقول العلماء في ذكاء الغربان إنه أكثر مما تتطلَّبه حياتها، لدرجة أنها تلجأ لابتكار ألعاب تسلي إحساسها بالضجر، كالتقاط غصن شجر والتحليق به ومن ثم إفلاته والتقاطه مرة أخرى، وقد علَّق الكاتب على ذلك فيقول: “إن الغربان تشبه الأطفال الأذكياء في بيئة لا تشجع على الإنجاز”، ومن أدلة ذلك ما ذكره الكاتب من قصص، فقد روي عن أيسوب الحكيم اليوناني أنه رأى غرابًا عطشًا يريد الشرب من جرة مستوى الماء فيها بعيد عنه، فقام الغراب بإلقاء الحصى في الجرة حتى ارتفع منسوب الماء واستطاع الشرب منها.
كما يصنفها العلماء كأكثر صانعي الأدوات مهارة بعد الإنسان، وذلك من خلال المراقبة المستمرة لسلوكها في الطبيعة وفي المختبرات، ففي الطبيعة يُلاحظ ابتكارها لكلَّاب منحوت بدقة من أغصان الأشجار يتم استخدامه لاستخراج الديدان من الثقوب، وابتكرت أيضًا ما يشبه المنشار المصنوع من هيكل أوراق الشجر حادة الأطراف، يُستخدم هذا المنشار في تقطيع الديدان وتقشيرها، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى طريقة تكسير الغربان آكلة الجيفة للجوز، حيث تقوم بالتقاطه والانتظار بجانب إشارة المرور الحمراء ومن ثم تسقطه لتقوم السيارات المارة بتكسيره، والكثير من القصص المؤكدة على إدراك الغربان للمواعيد وقوة ملاحظتها، هذا الذكاء الملحوظ تم تأكيده مخبريًّا بمراقبة تصرُّفات هذه الكائنات وطريقة استخدامها للأدوات المقدمة إليها، إضافة إلى الذكاء الاجتماعي والملكة اللغوية، فكل صرخة أو صوت خارج يمثل دلالة ما تمكنها من الاتصال مع أبناء جنسها.
الفكرة من كتاب الغراب.. التاريخ الطبيعي والثقافي
اختلف الواصفون من شعراء وعلماء وكهنة ورسامين في توصيف الغراب، أي أن كل اتجاه يميل إلى إظهار جانب مختلف من جوانب هذا الطائر العتيق، فالعالِم يراه بنظرة تشريحية تدرس وظائفه الحيوية وخصائصه التصنيفية التي تضعه في سلالات ومسميات تحدد رتبته ضمن باقي الكائنات الحية، والفنان يهتم برسم لوحات تبين الثنيات والألوان بتفاصيل جمالية، فضلًا عن تضمينه في كثير من الأمثال الشعبية ذات الدلالات والحكم المتوارثة جيلًا بعد جيل.
أما العوام من الناس فتروج بينهم النظرة التشاؤمية المرهونة برؤية هذا الطائر، وهكذا فإن الأساطير المحكية والتقاليد والتاريخ وحتى القصص الدينية المتواترة والكتب المقدسة جميعها تحوي حديثًا متنوعًا عن الغربان، ويختلف كل منهم في ذكر صفاته ووصف وجه مميز يغيب في منظور الوصف الآخر، لكنهم يجتمعون معًا لخلق صورة واحدة تنتهي برسم لوحة متكاملة عن الكائن الغامض ذي الريش الأسود والمنقار المدبَّب.
ومن هنا يهدف هذا الكتاب إلى الحديث عن سلوكه الحيواني وتوضيح ما له في التاريخ الطبيعي والثقافي من جميع الاتجاهات كالشعر والأدب والفنون، حتى يتيح لنا الإلمام بكل ما لهذا المخلوق من حديث يعيننا على فهم ما يدور حوله من ألغاز علمية، إضافةً إلى إدراك ما يمثله في الثقافات المختلفة، ويعد أرسطو أول المتحدثين عن الحيوان بشكل علمي، وذلك في كتابه “تاريخ الحيوان”، الذي تحدث فيه عن الغربان واصفًا أشكالها وخصائصها، وقد ذكر في مدة رعايتها واهتمامها بأبنائها أنها طويلة مقارنةً مع باقي الطيور.
مؤلف كتاب الغراب.. التاريخ الطبيعي والثقافي
الدكتور بوريا ساكس Boria Sax كاتب أمريكي من مواليد المملكة المتحدة في عام 1949، حاصل على الدكتوراه في التاريخ الألماني والفكري من جامعة ولاية نيويورك في بوفالو، ومحاضر الأدب في كلية ميرسي في دوبوس فيري بنيويورك، وله العديد من الكتب التي تبحث تداخل علم الحيوان بأساطير الشعوب القديمة، نذكر من تلك المؤلفات: “حديقة الحيوان الأسطورية”، و”الثعبان والبجعة”، إضافة إلى كتب أخرى مثل: “التراث الرومانسي للماركسية”.