اقتل الهندي واستثنِ الجسد
اقتل الهندي واستثنِ الجسد
لم تكن الإبادة الجسدية كافية ومرضية للأمريكي المستعمر، فاحتماليات نجاة البعض هنا وهناك موجودة بلا شك، وهو لا يرغب في وجود شهود على كل حال، لذا كان لا بدَّ من حل للتعامل مع البقية الناجية من الهنود، وهو سلخهم من هنديتهم تمامًا وإعادة كسوتهم برداء المستعمر الأبيض، فالسلام القرطاجني لم يقم عندما أبادت روما قرطاجة، بل عندما صار القرطاجنيون الناجون من الإبادة يقولون عند تدمير روما ما يقوله الرومان، فما حدث كان إبادة لوعي المقاومة.
ومنذ عام 1870 بدأت حملات التذويب الثقافي للهنود ومسخ بنيتهم الاجتماعية لتعمل على محو وإعادة تشكل وعي الهندي وأخلاقه ومسلماته وعقله وحتى ذاكرته تحت شعار “اقتل الهندي واستثنِ الجسد”، فتم تحريم ممارسة أي شعائر روحية للهنود باعتبارها خطرًا، وفي عام 1887 أقر الكونجرس قانونًا ليهدم تقليد الملكية الجماعي لدى الهنود ويعتمد على الملكية الفردية.
وتم ترحيل أطفال الهنود في سن مبكرة لمعسكرات أمريكية وفصلهم عن ذويهم، وتم منعهم من التحدث بلغتهم، ومن ممارسة الشعائر، وحتى ارتداء الأزياء التقليدية، في فصل تام لهم عن هويتهم ليكرهوا أصولهم ومجتمعاتهم حتى أصبحوا لا يرون بأسًا في مشاهدة أفلام الكاوبوي حيث الاستمتاع بقتل الهنود!
وفي عام 1924 تم إجبار جميع الهنود على حمل الجنسية الأمريكية، وتم تأسيس مكتب الشؤون الهندية عام 1934 لتوطين السلطة الاستعمارية بالداخل بهنود كل ولائهم للمستعمر الأمريكي، ومن خلال تلك السلطة الداخلية تمكن المستعمر من شطب مائة وثمانية شعوب من قوائم الشعوب الهندية المعترف بها رسميًّا، ماحين بذلك تاريخهم وحقوقهم في الأرض، بالإضافة لتعقيم اثنين وأربعين بالمائة من نساء الهنود الحمر، وقتل ما تبقى من شعب النافاهو بالنفايات المشعة، وإجراء التجارب الطبية على الهنود مثل تجارب طعم الالتهاب الكبدي الممنوع من قبل منظمة الصحة العالمية لتسبُّبه في مرض الإيدز.
الفكرة من كتاب أميركا والإبادات الجماعية
“تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض، إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين، ويا الله! ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض، هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون، فإن جلادنا المقدس واحد”.. بهذه الشهادة لمايكل هولي أحد نشطاء هنود شعب سو عام 1996 يبدأ منير العكش كتابه الذي يجمع فيه عددًا كبيرًا من الشهادات لمعرفة تاريخ الشعوب الأصلية في أمريكا من الهنود الحمر، تاريخ مائة واثني عشر مليون إنسان لم يبقَ منهم سوى ربع مليون في أول القرن العشرين، في الوقت الذي يوهمنا فيه تاريخ المنتصر بروايات الأرض الفارغة، ووحشية الشعوب الهندية، والخسائر الهامشية في سبيل تحقيق أقدار الله.
مؤلف كتاب أميركا والإبادات الجماعية
منير العكش: ناقد وباحث وأستاذ الإنسانيات ومدير الدراسات العربية في جامعة سفك في بوسطن، ومؤسس مجلة “جسور”، كان لتاريخ الهنود الحمر نصيب كبير من اهتمامه وبحوثه بالإضافة إلى ظاهرة الصهيونية غير اليهودية.
ألف كثيرًا من الكتب منها: “أميركا والإبادات الجنسية”، و”عن الشعر والجنس والثورة” بالمشاركة مع نزار قباني، و”الثقافة ومقاومة الموت”.