قضاء وقدر!
قضاء وقدر!
لم يكن الهلع الذي أصاب الزنابير (البيض الأنجلوساكسون_ البروتستانت) عند ظهور أولى حالات الجمرة الخبيثة مستغربًا، فلا بدَّ أنه جلب معه ذكريات ثلاثٍ وتسعين حربًا جرثومية أطلقها المستعمرون لإبادة أكثر من أربعمائة أمة كانت تعيش في أمريكا، منها إحدى وأربعون بالجدري، وأربع بالطاعون، وسبع عشرة بالحصبة، وخمس وثلاثون ما بين سل ودفتريا وتيفوس وكوليرا، لا بدَّ أنه حمل معه صور الذين أبيدوا بجراثيم الجدري في خليج ماساشوستس، وبمبيد الأعشاب البرتقالي وغاز الخردل واليورانيوم المستنفذ في كوريا وفيتنام!
إن مئات الكتب التي وضعها الأمريكان تصف عامل الأمراض وتسخر من إبادة تلك الشعوب بالأسلحة الجرثومية مثل الجدري والتيفوئيد والخناق والحصبة، لكن أمريكا على الرغم من ذلك لا تعترف بارتكابها أيًّا من تلك الإبادات، هي لا تعترف بوجود تاريخ ما قبل وصول كولومبس على أي حال، فأمريكا ما قبل كولومبوس كانت أرضًا خاوية إلا من بعض المتوحِّشين الذين لا بدَّ من تخليص الأرض منهم، وكأن القلة تبرر فناءهم الذي يوصف تارة بالقدَر الإلهي، وتارة بأنها خسارة هامشية في سبيل قيام الحضارة.
فهم لم يقوموا بنقل الجراثيم عمدًا بالطبع، إنه فقط “العامل الطبيعي والعناية الإلهية” التي جعلت الملك جيمس يشكر الله “على هذا الوباء البديع الذي أزاح المتوحشين من بين أقدامنا”، ويقول وليم برادفورد حاكم مستعمرة بليموث: “فمما يرضي الله ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت، هكذا يموت تسعمائة وخمسون من كل ألف منهم وينتن بعضهم فوق الأرض دون أن يجد من يدفنه! إن على المؤمنين أن يشكروا الله على فضله هذا ونعمته”.
الفكرة من كتاب أميركا والإبادات الجماعية
“تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض، إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين، ويا الله! ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض، هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون، فإن جلادنا المقدس واحد”.. بهذه الشهادة لمايكل هولي أحد نشطاء هنود شعب سو عام 1996 يبدأ منير العكش كتابه الذي يجمع فيه عددًا كبيرًا من الشهادات لمعرفة تاريخ الشعوب الأصلية في أمريكا من الهنود الحمر، تاريخ مائة واثني عشر مليون إنسان لم يبقَ منهم سوى ربع مليون في أول القرن العشرين، في الوقت الذي يوهمنا فيه تاريخ المنتصر بروايات الأرض الفارغة، ووحشية الشعوب الهندية، والخسائر الهامشية في سبيل تحقيق أقدار الله.
مؤلف كتاب أميركا والإبادات الجماعية
منير العكش: ناقد وباحث وأستاذ الإنسانيات ومدير الدراسات العربية في جامعة سفك في بوسطن، ومؤسس مجلة “جسور”، كان لتاريخ الهنود الحمر نصيب كبير من اهتمامه وبحوثه بالإضافة إلى ظاهرة الصهيونية غير اليهودية.
ألف كثيرًا من الكتب منها: “أميركا والإبادات الجنسية”، و”عن الشعر والجنس والثورة” بالمشاركة مع نزار قباني، و”الثقافة ومقاومة الموت”.