برقرطة الحياة اليومية
برقرطة الحياة اليومية
يقوم المنطق البيروقراطي بإحداث اضطرابات ملحوظة في المهن ذات الفائدة العامة، فنجد -حسب بياترس- لامعقولية ومساوئ الشكليات المطبَّقة بطريقة آلية، كتسريح منقذ سباحة لأنه أنقذ شخصًا من الغرق خارج محيط رقابته، ما يعني السير وفق مبدأ توزيع الموارد حسب الأداءات التي تحسبها مؤشرات آليات التحفيز والعقاب التلقائية التي تحدِّدها البرمجيات على أساس شكلي، فتنحو بذلك إلى توقيع عقوبات مجردة من الأخلاقية، ومتجاهلة الأشخاص الأكثر حاجة إلى المساعدة.
لا تتوقف البيروقراطية عند هذا الحد، فقد اجتاحت بمعاييرها وإجراءاتها الحياة اليومية أيضًا، ففي مجال الأغذية نجد مجموعة من المعايير والإجراءات الواجب اتباعها تحت ستار الشفافية والتنافسية والأمن الغذائي، إلى جانب شهادات صحية يجب الحصول عليها تحت عنوان “الضمان الصحي ومراعاة الصحة العامة”، فنجد أن الجبن الذي يصنعه الفلاحون غير مسموح بتداوله في الأسواق والمتاجر لأنه لا يتفق مع المعايير والإجراءات البيروقراطية!
ولم يعد الفقر والبطالة في عصر البيروقراطية النيوليبرالية من المشكلات التي تحتاج إلى حل؛ باعتبارهما مشكلتين تجب “إدارتهما”، من خلال “إدارة الفقراء” بجعلهم شركاء في السوق، وبالتالي إجبارهم على قبول وظائف متدنِّية وشروط عمل قاسية، إلى جانب أجور منخفضة وأوقات عمل طويلة مجهدة، كما يتم الترويج للقروض الصغيرة على نطاق واسع بهدف إدماج هؤلاء الفقراء في الحياة الاقتصادية عبر المشاريع الصغيرة؛ أما بالنسبة للعاطلين عن العمل فإنهم غارقون في تعلم نظام سوق العمل الذي يعد شلالًا من البيروقراطية، وبالتالي يتم تقييم الفقراء والعاطلين عن العمل -حسب بياترس- وفق منطق السوق القائم على قياس الأداء، وليس من خلال الظروف الحياتية أو تحسين المهارات أو اختفاء الفقر والبطالة؛ فالفقراء والعاطلون عن العمل ليسوا سوى عناصر في حساب الأداء في النظام البيروقراطي النيوليبرالي!
كما نجد أن المعايير والإجراءات يتم حلها بإضافة المزيد من المعايير والإجراءات، فكل مشكلة تظهر تخلق معها مجموعة من التدابير والقواعد تستجيب لمبدأ الوقاية والحيطة مما أحدث حالة من التضخم، وبالتالي نجد سيرورة دائمة من الإصلاحات التي تستدعي باستمرار المزيد من التدابير والأجهزة الرقابية الجديدة.
الفكرة من كتاب التحكُّم البيروقراطي
ترزح المجتمعات الحديثة اليوم تحت كم كبير من الإجراءات والمعايير البيروقراطية في جميع المجالات من الأعمال التجارية والمهنية إلى الحياة اليومية وعلاج مشكلات كالبطالة والفقر، حيث يجد الإنسان نفسه خلال حياته اليومية مصطدمًا بالعديد من الإجراءات والتعليمات التي تهدر الكثير من الوقت والطاقة؛ فإذا أقدم منقذ سباحة على إنقاذ أحد الأشخاص من الغرق خارج منطقة رقابته، فإن ذلك قد يعرِّضه لعقوبة مالية -الخصم من مرتبه- أو عقوبة الفصل من العمل والسبب عدم اتباع المعايير والقواعد وفق المنطق البيروقراطي النيوليبرالي!
مؤلف كتاب التحكُّم البيروقراطي
بياترس هيبو Beatrice Hebou: أستاذة في العلوم السياسية، ومديرة أبحاث في المركز الوطني للبحوث في فرنسا، لها مؤلفات عديدة، منها: “التشريح السياسي للسيطرة”، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا.