ثقافة الدعابة والعنف
ثقافة الدعابة والعنف
كانت الدعابة في السابق مستهجنة وغير مقبولة كونها تشجِّع على التفاهة والدونية، بينما ما يميِّز مجتمع ما بعد الحداثة هو السيل الجارف من الدعابة، وإزالة الحواجز التي تفصل بين ما هو جاد وما هو هزل، فقد ألحقت الدعابة بجميع فضاءات الحياة الاجتماعية، وصار الإنسان يلقي النكات من الصباح إلى المساء، ولم يعد أحد يؤخذ على محمل الجد، وأصبح كل شيء مدعاةً للضحك والسخرية، وأصبحت الأفلام والمسلسلات تمنح “البذاءات” فضيلتها في إثارة الضحك، فالطابع الجدِّي أصبح محظورًا، ورغم الكم الجارف من الدعابة فإن الإنسان ما بعد الحداثي المنكفئ على ذاته، الموغل في الفردانية، يجد صعوبة بالغة في الضحك والفرح!
كان العنف في عصر ما قبل الحداثة يقوم على قيمتي الانتقام والشرف، فقد كانت العلاقات بين الناس أهم وأعظم من علاقة الإنسان بالأشياء، وكانت المصلحة الجماعية مقدمة على المصلحة الشخصية، فقد كان الإنسان يرى ضرورة التضحية بالنفس في سبيل المصلحة العليا للجماعة، وكان التعبير عن أولوية الكل الجماعي على العنصر الفردي يتخذ شكل الانتقام والشرف؛ فازدراء الموت وعدم الخوف منه، ورخص الحياة مقابل الصالح العام، إلى جانب عدم تحمُّل الإهانة أو السب والشتم كان ما يميِّز عصر ما قبل الحداثة.
كذلك نشأت الدولة الحديثة في خضم التحرُّر من قيمتي الانتقام والشرف، ولم تعُد الحرب مرادفة للانتقام، فالانتقام ضد النظام الدولاتي -الدولة وتطورها- وبذلك فَقَدَ الانتقام شريعته بسبب سيطرة الفردانية على المجتمعات، وبالتحديد على يد الدولة الحديثة التي احتكرت العنف الجسدي المشروع، إذ يرى ليبوفتسكي أن المجتمعات التي تقوم بتغليب النظام الجماعي على النظام الفرداني يظهر فيها العنف والقسوة كنتيجة لعدم إعطاء قيمة للحياة الشخصية أو الألم الشخصي مثلما تفعل المجتمعات الحديثة.
فبسبب سعي الإنسان ما بعد الحداثي وراء الرفاهية والمتعة قد أصبحت علاقته بالأشياء أهم من علاقته بالناس، وغدت الحياة هي القيمة العليا، ومن ثم لم يعد له رد فعل تجاه المهانة أو العار، فحلَّت بذلك أخلاق المنفعة الشخصية محل الشرف والانتقام، فلا يتعيَّن الاعتقاد بأن سبب غياب العنف في المجتمع ما بعد الحداثي هو التربية الانضباطية، بل السبب راجع إلى منطق الشخصنة والفردانية التي تفضِّل التواصل السلمي، وتقديس الجسد والحفاظ عليه، إلى جانب كره الموت.
وفي الوقت الذي أخذ فيه العنف الجسدي في الانزواء جانبًا أصبح العنف اللفظي هو البديل؛ وأصبحت الشتائم تتصف بالطابع الشخصي، وغالبًا ما تكون شتائم إباحية جنسية، وفي النهاية فإنه متى استفحل الانعزال الفرداني وتفاقم، فإن الهشاشة والضعف تزداد -خصوصًا في فئة الشباب- وتشيع الأمراض النفسية كالتوتر والكآبة، ومن ثمَّ ينتشر الانتحار!
الفكرة من كتاب عصر الفراغ
إن النزعة الاستهلاكية المتطرِّفة التي يتميَّز بها عصر ما بعد الحداثة، جعلت الإنسان يبحث عن السعادة والرفاهية في المشتريات، وطلبه الحصول على كل شيء في التوِّ واللحظة، مما أدَّى إلى إيغال هذا الإنسان في الفردانية، إلى جانب شخصنته لكل شيء، من شخصنة الجسد بإضفاء طابع القداسة والكرامة عليه، ومن ثمَّ أصبح التعري احترامًا وتوقيرًا له، ويصير الستر تنميطًا مستهجنًا لا بدَّ من محاربته، إلى شخصنة الدين بطلب دين على المقاس، وحسب الطلب، وصولًا إلى مرحلة الفراغ حيث يكمن الحل الوحيد في الانتحار!
مؤلف كتاب عصر الفراغ
جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية والنيوليبرالية، وتفكيك بنى المجتمعات الاستهلاكية.
له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، و”أفول الواجب”.