الحداثة وما بعد الحداثة
الحداثة وما بعد الحداثة
تقوم الحداثة على هجر كل تقليد، وتقديس كل ما هو جديد متغير، فهي تتميز بالقطيعة واللاستمرارية، فالحداثة تأبى التوقُّف، ودائمًا مكرَهة على الإبداع والتغيير والهروب إلى الأمام، فالحداثة عبارة عن عملية نفي غير محدودة، ولا تدخر أن تنفي نفسها! فهي شكل من أشكال التدمير الذاتي الخلاق، بحيث يتحول الجديد بمجرد وجوده إلى قديم؛ ومنذ نصف قرن والحداثة فقدت قدرتها على التغيير والابتكار، وما عاد المبدعون إلا أناسًا يقلِّدون ما هو قديم في ثوبٍ جديد، وتلك هي ما بعد الحداثة التي تقوم باستغلال متطرف للمبادئ الحداثية.
ويرى الكاتب أن “الثقافة المُتعيَّة” التي كانت محصورة في مجموعة الفنانين والمثقفين، أصبحت في عصر الحداثة سلوكًا عامًّا، وقد ظهرت في الحياة اليومية مع ظهور الاستهلاك الجماهيري بداية العشرينيات من القرن العشرين، وسبب ظهور ثقافة المتعية ليست الحداثة ذاتها، بل الرأسمالية، وذلك من خلال انتشار سلع كانت تعد سلعًا “تَرَفية – كمالية” بفضل الدعاية التجارية والموضة والإعلام الجماهيري، وعلى نحو أساسي بسبب “القروض” التي ضربت “مبدأ الادخار” في مقتل، فقد كانت القروض معول الهدم الأساسي للقيم والأخلاق التقليدية لأن عملية الشراء كانت تحتاج أولًا وأخيرًا إلى الادخار، وبفضل القروض أضحى الإنسان يُشبِع رغباته وحاجاته في الآن والحال؛ لقد تركت الأخلاق التقليدية مكانها لقيم تقوم على المتعة والإشباع، مشجِّعة على الإنفاق والاستمتاع بالحياة والاستسلام للنزوات الخاصة.
وتتجلَّى أهم مطالب ما بعد الحداثة في “الحرية الفردية”، إذ نجد طوفانًا من المطالبات بالحرية الفردية في كل شيء: الحرية الجنسية، والزيجات الحرة، والزيجات المنحرفة، والتحرُّر من إنجاب الأطفال، إلى جانب العلاجات والرياضات الشرقية التي تهدف إلى تحرير الأنا، وتقليل الفروق بين الجنسين، وتقليل الفروق بين الأجيال من خلال محاربة التقدُّم في السن.
كما يتميَّز عصر ما بعد الحداثة بشخصنة المجال الديني، من خلال دمج وخلط التوراة والقرآن والإنجيل والبوذية معًا ليخرج دين على المقاس، وحسب الطلب، بل قد يقضي الفرد وقتًا كمسيحي، ووقتًا آخر كمسلم، ووقتًا ثالثًا كبوذي، ووقتًا رابعًا كمريد للإله كريشنا، متقلبًا كيفما شاء بين الفلسفات والأديان، وذلك كله نتيجة الشخصنة، والإيغال في الفردانية، فقد مُزِّقت كل القيود لأجل حرية معربدة وفاحشة، ومن أجل تمجيد غريزي للجسد والذات، فلا تعدو ما بعد الحداثة أن تكون وجهًا آخر للتعبير عن الانحطاط الأخلاقي والجمالي لعصرنا.
الفكرة من كتاب عصر الفراغ
إن النزعة الاستهلاكية المتطرِّفة التي يتميَّز بها عصر ما بعد الحداثة، جعلت الإنسان يبحث عن السعادة والرفاهية في المشتريات، وطلبه الحصول على كل شيء في التوِّ واللحظة، مما أدَّى إلى إيغال هذا الإنسان في الفردانية، إلى جانب شخصنته لكل شيء، من شخصنة الجسد بإضفاء طابع القداسة والكرامة عليه، ومن ثمَّ أصبح التعري احترامًا وتوقيرًا له، ويصير الستر تنميطًا مستهجنًا لا بدَّ من محاربته، إلى شخصنة الدين بطلب دين على المقاس، وحسب الطلب، وصولًا إلى مرحلة الفراغ حيث يكمن الحل الوحيد في الانتحار!
مؤلف كتاب عصر الفراغ
جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية والنيوليبرالية، وتفكيك بنى المجتمعات الاستهلاكية.
له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، و”أفول الواجب”.