نرجسية ولا مبالاة تجاه كل شيء
نرجسية ولا مبالاة تجاه كل شيء
أضحى الإنسان ما بعد الحداثي عبارة عن “نرجس” الذي لا يُلقي بالًا للماضي ولا يعير اهتمامًا للمستقبل، فهو يريد أن يعيش الحاضر وحسب، وأصبحت الثقافة السائدة “كل شيء وحالًا”، ما يعني بروز ملامح جديدة للفرد في علاقاته مع ذاته، ومع جسده، ومع الآخر، ومع العالم والزمن، فالقلق يحيط به من كل جانب والخوف ينهش أوصاله، من نشوب حرب نووية، ومع تنامي الكوارث البيئية، والخوف من نهاية العالم، صار المستقبل مهددًا وغير مؤمَّن، فدفعه ذلك نحو الحط من الانضباط والسلطوية والادخار، مقابل تقديس الرغبة وإشباعها، فينكفئ على نفسه طالبًا العيش الآني.
وفَقَدَ الشأن العام حيويته، وأصبحت القضايا الكبرى حدثًا عارضًا كأي حدث عادي؛ فقط الفضاء الخاص هو الذي خرج منتصرًا من اللامبالاة العارمة، كما أصبح العيش دون مثل أعلى أو غاية أمرًا ممكنًا، فاهتمام الناس صار مقتصرًا على تأمين الصحة والحياة المادية والتخلُّص من أي عقد.
كما يشهد المجتمع ما بعد الحداثي شغفًا غير مسبوق نحو معرفة الذات وتحقيقها، ويتضح ذلك -كما يرى ليبوفتسكي- من خلال كثرة المنظَّمات العاملة في المجال النفسي، فضلًا عن التأمل والرياضات الشرقية، فمن العلاج الجشطالتي، والتحكُّم في العقل، والتاي تشي، إلى الوخز بالإبر، واليوغا؛ يهدف الإنسان من وراء ذلك إلى “تحرير الأنا” ليبلغ الاستقلالية والتحرُّر دائمًا، فهو يريد أن يحب نفسه على نحو كافٍ حتى لا يحتاج إلى أي شخص آخر يجعله سعيدًا.
ولكي تكون حياة النرجسي (المهووس بنفسه) قابلة للعيش، فإنه يجعل “الأنا” شغله الشاغل، وهمه الأكبر “تنمية الذات”، فلا يهتم ولا يبالي بتحطُّم العلاقات الأسرية أو الاجتماعية لأنه يستطيع أن يغرق في ذاته، ما يعني هشاشة العلاقات الإنسانية، وتعميق تفتُّت المجتمع، ويرى ليبوفتسكي أنه مع الإغراق في الفردانية والانكفاء على الذات “تتآكل الأنا” فتذوب الهويات الصلبة والأدوار الاجتماعية، وتتلاشى الغيرية، فتتحقَّق المساواة المطلقة، وتمَّحي الفروق الجوهرية بين الرجل والمرأة، بل وتتلاشى الغيرية بين الإنسان والكائنات الأخرى، فيتحرَّر الإنسان ما بعد الحداثي بذلك من آخر القيم الأخلاقية والاجتماعية!
الفكرة من كتاب عصر الفراغ
إن النزعة الاستهلاكية المتطرِّفة التي يتميَّز بها عصر ما بعد الحداثة، جعلت الإنسان يبحث عن السعادة والرفاهية في المشتريات، وطلبه الحصول على كل شيء في التوِّ واللحظة، مما أدَّى إلى إيغال هذا الإنسان في الفردانية، إلى جانب شخصنته لكل شيء، من شخصنة الجسد بإضفاء طابع القداسة والكرامة عليه، ومن ثمَّ أصبح التعري احترامًا وتوقيرًا له، ويصير الستر تنميطًا مستهجنًا لا بدَّ من محاربته، إلى شخصنة الدين بطلب دين على المقاس، وحسب الطلب، وصولًا إلى مرحلة الفراغ حيث يكمن الحل الوحيد في الانتحار!
مؤلف كتاب عصر الفراغ
جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية والنيوليبرالية، وتفكيك بنى المجتمعات الاستهلاكية.
له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، و”أفول الواجب”.