إغراء في كل مكان
إغراء في كل مكان
إذا نظرت من حولك ستجد أن الإغراء قد عمَّ كل شيء، وأصبح الإنسان متحررًا من كل سلطة تقيده أو تضبط مساره، فالمجتمع ما بعد الحداثي من خلال ثقافة الاستهلاك المستندة إلى تكثير المعروض، يقوم بتوسيع مجال اتخاذ القرارات، فلا يجد الإنسان بُدًّا من أن يختار، ومن ثم يتم الحد من الأُطر التقليدية المتصلِّبة والسلطوية، وفق عملية تقوم على “الشخصنة”.
وقد دخلت الشخصنة على جميع المجالات، ففي المجال الطبي تم إضفاء الطابع الذاتي للمرض، حيث يرى ليبوفتسكي أنه أصبح من غير المسموح أن يعيش المريض بسلبية، ومن ثم تعدَّدت وتنوَّعت طرق العلاج غير التقليدية، كالعلاج بالإبر والأعشاب والتطيُّب الترياقي والعلاجات الرخوة، ما يعني القطيعة مع المؤسسات الاستشفائية حتى الأعراف والتقاليد لم تنجُ من آفة الشخصنة، فالاختلاف وعدم التوافق قد أصبح موضة هذا العصر، وكل تنميط وتكلُّف لم يعد مرغوبًا فيه، ما أدَّى إلى تحرُّر الإنسان من الأدوار والعقد، فالمجتمع ما بعد الحداثي يرسي ثقافة التحرُّر من كل شيء، والذي يطال الجنسين، وجميع الفئات العمرية، كما أصبحت تربية الأطفال متسامحة، متساهلة، خالية من السلطوية (سلطة الأب والأم)، وحلَّ بدلًا من ذلك ثقافة الاستماع وتلبية جميع الرغبات، وأصبح المسنُّون أشخاصًا في العقد الثالث أو الرابع من العمر!
كما يرى ليبوفتسكي أنه قد شاعت ثقافة الصم والبكم، فنحن نشهد انفجارًا في عالم الموسيقى والغناء يدعونا إلى الذهول، فبعد أن كانت الموسيقى في عصر الإنسان السلطوي الانضباطي محصورة في أماكن معينة وأوقات محدَّدة، أصبحت في عصر ما بعد الحداثة يتم الاستماع إليها من الصباح إلى المساء وفي كل مكان! وأضحى واجبًا على كل واحد منَّا أن يقوم بإدارة رأسماله الجمالي والعاطفي والجسدي على أفضل ما يكون، كما تتجلى ثقافة الإغراء في إدمان الجنس، وتفشِّي الإباحية، فهي تلغي النظام السلطوي القائم على الرقابة في سبيل (مشاهدة وفعل وقول) كل شيء، فما الإباحية إلا ثقافة “كل شيء مسموح” والتصرف الحر في الجسد، والحرية في ممارسة الجنس، فجسدك أصبح هو “أنت” ومن ثم ينبغي الاهتمام به وعشقه وإظهاره وعدم ستره، فأضفت ما بعد الحداثة على الجسد كمالًا، فجعلت بذلك العُري والجسد العاري دليلًا على احترام هذا الجسد واعترافًا بكماله وكرامته!
الفكرة من كتاب عصر الفراغ
إن النزعة الاستهلاكية المتطرِّفة التي يتميَّز بها عصر ما بعد الحداثة، جعلت الإنسان يبحث عن السعادة والرفاهية في المشتريات، وطلبه الحصول على كل شيء في التوِّ واللحظة، مما أدَّى إلى إيغال هذا الإنسان في الفردانية، إلى جانب شخصنته لكل شيء، من شخصنة الجسد بإضفاء طابع القداسة والكرامة عليه، ومن ثمَّ أصبح التعري احترامًا وتوقيرًا له، ويصير الستر تنميطًا مستهجنًا لا بدَّ من محاربته، إلى شخصنة الدين بطلب دين على المقاس، وحسب الطلب، وصولًا إلى مرحلة الفراغ حيث يكمن الحل الوحيد في الانتحار!
مؤلف كتاب عصر الفراغ
جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية والنيوليبرالية، وتفكيك بنى المجتمعات الاستهلاكية.
له مؤلفات عديدة، منها: “مملكة الموضة”، و”المرأة الثالثة”، و”الترف الخالد”، و”الشاشة العالمية”، و”أفول الواجب”.